الخميس, أكتوبر 10, 2024
- إعلان -spot_img

الأكثر قراءة

الرئيسيةأخبارالإكراه الاقتصادي - الحلقة الأولى الحصار القاري الفرنسي: البابا في سجون نابليون...

الإكراه الاقتصادي – الحلقة الأولى الحصار القاري الفرنسي: البابا في سجون نابليون (1809 ـ 1814)

هاشتاغ _ عصام التكروري

تقولُ الحكاية إنَّه في عام 1806 تمكّن نابليون بونابرت من هزيمة التحالف الرابع الذي ضم كلاً من بروسيا، روسيا، بريطانيا، ساكسونيا، السويد وصقيلية، هزيمة جعلت أوروبا كلها تقريبًا تخضع لسيطرته، سيطرةٌ ما كانت لتتم لولا النصر الذي اجترحه في معركة أوسترليتز عام 1805 (والمعروفة أيضاً باسم معركة الأباطرة الثلاث) حينما أبادَ ـ أو كاد ـ درَّة الجيوش البرية الأوروبية: الجيشين الروسي والنمساوي اللذين كانا رأس الحربة في الائتلاف الثالث الذي قادته أوروبا ضد نابليون بونابرت، والذي خلَّد نصر أوسترليتز ببناء قوس النصر القائم اليوم في وسط مدينة باريس.

لكن على الرغم من هذه الانتصارات فقد ظلّت فكرة إحراز نصر عسكري ساحق على بريطانيا تنغصُ على بونابرت مجده، فهو لم ينسَ الهزيمة التي ألحقها به الأسطول البريطاني في معركة “طرف الغار” عام 1805، هزيمة حرمته من الشعور بالرضا التام عن الهزائم التي ألحقها ببريطانيا بوصفها دولة ضمن تحالفات خمسة من دول هزمها منذ بداية الحروب النابليونية (1799ـ1815) وذلك قبل أن يُطيح به التحالف السادس.

بوصفه قائداً عسكرياً فذاً أدركَ نابليون أنّ بريطانيا تمتلك ميزتين تجعلان إخضاعها صعباً من الناحية العسكرية: الميزة الأولى أنَّها جزيرة، والميزة الثانية أنَّها تمتلك أسطولاً بحرياً طالما كانت يدها الطولى ليس فقط في هزيمة مهاجميها، بل في قدرتها على مدّ سيطرتها إلى آخر ذرة رمل تصل إليها أول سفينة حربية بريطانية.

ما العمل إذاً مع هذه الـ “بريطانيا” ؟

“لابد من حصارها اقتصادياً” … هكذا أجابَ الإمبراطور الذي شرعَ من فورهِ بتنفيذ ما وصِف يومها باسم ” سياسة الحصار القاري”، سياسةٌ كانَ الهدفَ منها إسقاط بريطانيا بالنقاط بدلاً من إسقاطها بالضربة القاضية وذلك بحرمانها من التمتع بحالة الانتعاش الاقتصادي التي بلغتها نتيجة مباشرة للثورة الصناعية، حرمان كهذا سيخلق حالة من التململ وعدم الرضا لدى عامة الشعب كما لدى النُخب المالية والتجارية البريطانية وبشكلٍ يدفع الجميع إلى مناوئة الطبقة الحاكمة، والتعاون مع الخارج لإحداث تغيير في “سلوك النظام”، ومَن أقدر من فرنسا على تقديم هذا الدعم “للأشقاء البريطانيين”.

في سبيل إنجاح “سياسة الحصار القاري” بوصفها وسيلة لإخضاع بريطانيا كان على نابليون التهديد باستخدام فائض السطوة العسكرية الفرنسية في مواجهة الدول الأوروبية التي أخضعها لكي يثنيها عن الانخراط بأدنى نوع من العلاقات مع بريطانيا بهدف الاستفادة من خبراتها في النهوض الصناعي لأن ذلك يعني كسراً “للحصار القاري” الذي تبين لنابليون ـ وبعد مرور نحو ثلاثة أعوام على فرضه في مواجهة بريطانيا ـ أنَّ النتائج التي حققها ما زالت محدودة فالصادرات البريطانية إلى أوروبا القارية لم تنقطع تماماً وإنما انخفضت بنسبة تتراوح من 25% إلى 55% مقارنة بمستويات ما قبل عام 1806، وذلك بسبب انخراط بريطانيا في عمليات تهريب كانت تتم بالتعاون مع حكام مُقربين من نابليون نفسه، ناهيكَ عن اقتحام بريطانيا أسواق جديدة في بقية أنحاء العالم، لكن هذا كلّه لم يمنع الاقتصاد البريطاني من التصدع ـ وتحديداً في الفترة ما بين عامي 1810 و1812ـ إذ ارتفعت معدلات البطالة والتضخم، وعمّت المظاهرات والاحتجاجات العنيفة في عموم الأراضي البريطانية لدرجة دفعت الحكومة إلى الاستعانة بالجيش لقمع احتجاجات الطبقة العاملة تلك مستفيدة من دعم الطبقتين العليا والوسطى لها في مسعاها هذا.

أمام هذه التحولات، ورغبة في تضييق الخناق أكثر على بريطانيا ارتأى نابليون أن يوسّع “سياسة الحصار القاري” ليحولها إلى سياسة جماهيرية تدفع المواطن قبل الحاكم الأوروبي إلى مقاطعة كل سلعة تدخل تهريباً إلى الأسواق، ومن الأقدر على تقديم مثل هذه المساعدة أكثر من بابا الفاتيكان پيوس السابع الذي أبرم معه بونابرت ـ عام 1801 ـ معاهدة بابوية بموجبها اعترف نابليون بالبابا رئيسًا للكنيسة، وأزال بعض القيود التي فرضتها الثورة الفرنسية على رجال الدين ودفع رواتبهم مقابل قبول البابا بمصادرة الدولة الفرنسية لأملاك الكنيسة، إضافة إلى ذلك وافق البابا على أن يختار نابليون الأساقفة مقابل أن يُعين هؤلاء رجال الدين الذين هم دونهم.

هذا التوافق دفع نابليون ـ عام 1809 ـ أنْ يطلب من البابا مساعدته (بأمر كنسي أو حُرم كنسي صغير أو كبير …) بما يمكن أن يشدد الخناق الاقتصادي على بريطانيا التي كانت تمرّ حينها بأشدِّ أوضاعها الاقتصادية سوءاً، لكن البابا رفض الانخراط في مسعى نابليون هذا فما كان من الأخير لكن احتل ـ في عام 1809 ـ الدولة البابوية ليرُدَّ عليه البابا “پيوس السابع” بفرض حرمانٍ كنسي عليه شخصياً، وقبل أن يجف الحبر الذي كُتب به هذا الحرمان اعتقلت مجموعة من الضباط الفرنسيين البابا من دون علم الإمبراطور بونابرت، ولكنه عندما علم بالأمر لم يصدر أمراً بإطلاق سراحه بل مارس الضغوط النفسية عليه بدءاً بإجباره على الارتحال عبر طول الأراضي الخاضعة لنابليون وعرضها (استعراض للقوة)، خلال هذا الترحال القسري ـ والذي نُفِّذَ حتى في الفترات الأكثر شدة من مرض الباباـ استمر نابليون بإرسال الوفود إليه بغية الضغط عليه للموافقة على دعم “الحصار القاري” ضد بريطانيا، لكن البابا واجه ذلك بالرفض التام طوال سنوات اعتقاله الخمس إذ لم يتمكن البابا من العودة إلى روما إلا بعد أن تنازل نابليون عن العرش في أيار/مايو من سنة 1814.

لم يكن ما تقدم إلا عرضاً مكثفا لما أصبح اليوم يُعرف باسم ” الإرهاب الاقتصادي”، والذي بات يُشكل سلاحَ واشنطن في إخضاع العالم، وتحديدا الدول التي ترى في رفضها هيمنتها تحدياً يجب مواجهته بمزيد من العنف من دون الأخذ بالاعتبار ما يمكن أن يشكّله ذلك من انتهاكات لنصوص دولية جرّمت صراحة هكذا نوع من الممارسات اللإنسانية.

في الحلقات المقبلة من هذه السلسلة سنستعرض بعض “قوانين الحصار الاقتصادي الأمريكية” التي باتت تُشكل حبلا يلتف على أعناق الشعوب وعلى الشرعية الدولية معا.

http://لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

مقالات ذات صلة