فتحت التوترات في شمال سوريا الشرقي احتمالات جديدة أمام الوجود الأمريكي شرقي الفرات، فالصراع الذي دار بين “العشائر” وقوات “قسد” كشف الهشاشة في بنية مناطق “الإدارة الذاتية” السياسية، ووضع الأزمة السورية من جديد أمام واقع خاص من التشابك الذي خلفه وجود “قوات التحالف” العسكري، ففي الجزيرة السورية فراغ حقيقي لم تستطع الولايات المتحدة على الرغم من قواعدها العسكرية خلق توازن فيه يمنع الاقتتال.
عمليا فإن المعارك التي دارت كانت موجهة ضد الحالة الطارئة وليس ضد “السوريين الأكراد”، فمحاولة خلق واقع خاص في الشمال السوري تناوبت عليه قوى مختلفة منذ عام 2011، وكانت “النصرة” و “داعش” جزءا من الاختلال الذي حدث نتيجة الاضطرابات في العلاقات على مثلث الحدود السورية – العراقية – التركية، وعندما حاولت واشنطن دعم “قسد” في مواجهة “داعش” فإنها رسمت معادلة اضطراب جديدة لسببين:
الأول أنها تجاهلت مسألة “قوة الدولة” سواء في سوريا أم العراق وذهبت باتجاه خلق بدائل عسكرية محلية كانت في النهاية مجرد فصائل غير قادرة على تحقيق استقرار حقيقي لأنها كانت تتحرك في “الفراغ” الذي أوجدته الولايات المتحدة سواء في العراق نتيجة الاحتلال المباشر، أم حتى في سوريا بدعمها لجماعات مسلحة هدفها النهائي خلق انهيار في قوة الدولة.
ظهرت “النصرة” ثم “داعش” وبعدها “قسد” بوصفها قوى متباينة للسيطرة على الحدود مع العراق وتركيا، وبصرف النظر عن الاختلافات بعضها بين بعض لكنها أجرت وظيفة واحدة هي محاولة تغيير مفهوم سيادة الدولة في سوريا وشرق المتوسط، والصراع الحالي يوضح أن ما حدث طوال السنوات الماضية لا يسعى إلى تغيير في خريطة المنطقة فقط، إنما يسعى إلى كسر مفهوم الدولة بالدرجة الأولى.
السبب الثاني هو أن الولايات المتحدة أرادت إغلاق أي تفكير إيراني بالوصول إلى شواطئ المتوسط من سوريا والعراق، وسعت إلى كسر أي توازن للنفوذ الدولي في المنطقة، وخصوصا في إحياء طريق الحرير أو غيرها من المشاريع الدولية، وهذا جعل الحدود السورية – العراقية مسرح العمليات التي أدت لظهور مجموعات مسلحة مختلفة في الولاءات، وجعل أي توتر مثل الحرب في غزة يشعل هذه الحدود ويضعها بؤرة صراع محتملة.
تزامن ما يحدث في الجزيرة السورية مع حرب غزة يؤشر إلى أن الجبهات كلها يمكن أن تشتعل، فالحروب المتنقلة هي جزء من التصور الأمريكي – “الإسرائيلي” لإعادة صياغة العلاقات في المنطقة، ووجود قوى عسكرية محلية مثل “قسد” أو غيرها يصبح ورقة في التفاوض السياسي الطويل، فالمسألة اليوم تتعدى ما تفعله حماس، لأنه يتعامل مع مساحة واسعة من إعادة صياغة المنطقة، فالحرب بنظر واشنطن ضرورية لفرض معادلات قوة جديدة.
ما يبرز اليوم ليس صراعا كرديا – عربيا إنما اختلال في التوازنات التي كانت قائمة وتبدو اليوم مختلة، وقائمة على تصفية خاصة في حساب الإدارة الأمريكية التي ترى المنطقة بوصفها تداعيات لصراعات محلية مستمرة.