حتى اللحظة تتوقف التحليلات عند احتمال اجتياح عسكري “إسرائيلي” ثالث لجنوب لبنان، فالحرب التي انتقل ثقلها باتجاه حزب الله تبدو كمعارك طويلة لا يستطيع أحد إيقافها، والقدرة النارية التي تستخدمها “إسرائيل” مشابهة لما حدث في غزة، ولكن التقديرات العسكرية تبدو صعبة في ظل تجربة تتكرر منذ عملية الليطاني نهاية سبعينيات القرن الماضي.
ما تقدمه المعارك من مؤشرات لا يرتبط فقط بمسألة حرب برية قادمة، فهناك واقع سياسي إقليمي ودولي مقلق، إذ تفرض حكومة نتنياهو حالة رعب عامة وتحركًا غير مسبوق في تاريخ العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، فهي تمارس عملية تغيير بالقوة النارية لكل التوازنات السياسية؛ مستخدمة أشكال الضغط كلها على الأطراف لدفع الحرب نحو أوسع رقعة ممكنة، وذلك في وقت لا يبدو أن التحرك الدبلوماسي مكترث للنتائج المترتبة عن هذه الحرب.
في الصورة الأولية فإن الحرب على غزة بدأت في مجال جغرافي محدود، ولكنها استخدمت العنف ضد المدنيين لتوسيع نطاق التأثر العام للمعارك، وما يحدث في جنوب لبنان مشابه على الرغم من اختلاف الجغرافيا، فهناك ضغط ناري ليس معروفًا تأثره العسكري لكن هدفه هو إحراج باقي الأطراف، وبالتحديد إيران، للتدخل وهذا يجعل الحرب مواجهة على المستوى الإقليمي.
إذا استطاعت “إسرائيل” الوصول إلى عملية المواجهة الكبرى فإن الترتيبات الإقليمية كافة على هشاشاتها ستنتهي باتجاه خطر، فإيران لا تملك تماسا مباشرا مع “إسرائيل”، وستصبح الحرب عملية ضغط على المصالح من الخليج وصولا إلى لبنان، وهو ما تسعى إليه “إسرائيل” بجعل مناطق العزل الجغرافي مع إيران، أي العراق والأردن، جزءًا من الحرب التي ستكون مفتوحة على الاحتمالات كافة.
بعد جولات التفاوض كلها منذ بداية الحرب على غزة وصل الوضع إلى تصريح نتنياهو بأن نصف “الرهائن” قتلوا، وهذا الأمر ليس هزيمة لـ”إسرائيل” على الرغم من أنه يتناقض مع أهداف الحرب مع غزة، لكنه تركيز على أن المسألة تتجاوز مراحل التفاوض كلها، وأنها من البداية كانت محاولة تصفية لواقع سياسي يحاصر “إسرائيل” ويجعل أي مكاسب سياسية لها على مستوى الإقليم، مثل الاتفاقيات الإبراهيمية، غير مجدية طالما أن هناك ظاهرة معادية لها، ضمن حدودها، وتملك عمقًا يصل إلى طهران.
منذ لحظة الحرب الأولى والاستنفار الأمريكي المرافق لها كان واضحًا أن أبعاد الحرب لا ترتبط بالرهائن، ولا بإبادة سكان غزة فقط، فهناك “إبادة” من نوع آخر لحالة سياسية لم تعد متوافقة مع نظرة “إسرائيل” لذاتها على أنها كسرت حاجز العداء مع محيطها وخصوصًا مع دول الخليج التي تملك رمزية خاصة مقارنة بالإقليم ككل، فعدم الرغبة في توسيع الحرب من جهة الأطراف التي تقف في مواجهة “إسرائيل”، مقابل الرغبة الجامحة لإحراجها على دخول المعارك هي معادلة ربما لم يشهدها التاريخ، فهذا الرهان يشكل رعبًا إقليميًا لا علاقة له بالقوة النارية التي تستخدمها “إسرائيل” إنما بطبيعة الاحتمالات المفتوحة التي يمكن أن تغيّر شكل الشرق الأوسط الحالي كله.