هاشتاغ-نضال الخضري
انتهى الزمن الفلسطيني من ذاكرة الأجيال التي أفاقت على إيقاع مختلف، وأصبح كم الأخبار حالة من البحث بين الركام عن بقايا حدث من “جنين“، أو عن صورة تنعش ألما خاصا غاب أمام ضجيج آخر، وثقافة باتت “فلوكلوراً” يظهر أحيانا بشكل سريع في الشريط الإخباري، فـ”جنين” ليست مادة لحملات إعلامية، وهي أيضا ممنوعة عن وسائل التواصل الاجتماعي، فصورتها لا تحمل جاذبية الترفيه الافتراضي الذي يجتاح عالمنا، ويشكل لونا يسبح فيه الناس بعيدا عن تفاصيل حياتهم القاسية.
ما يحدث في “جنين” ربما يتعدى الألم أو ظاهرة المقاومة التي بقيت منتعشة قبل أن يكتسحها الإعلام الفضائي ويحتكر حضورها أو غيابها، فهي جزء من “عملية النسيان” التي تجعل من الحياة أسيرة صناعة الصورة، وجزء من التكوين الدولي المعقد، فتغدو آلة الحرب والرعب في أحياء المخيم صدىً لا يمكن سماعه إلا بالصدفة، ويتحول الزمن الفلسطيني لظاهرة “اعتياد” يصعب تمييزه وسط الضجيج الآخر القادم من الجهات الأربعة.
ربما نستطيع رسم صور أخرى لغياب “جنين” من تفاصيل الألم الذي يحاصرنا، فهي ليست تفصيلا عاديا رغم وجودها في “الظل”، وبعيدا عن بقعة الضوء الخاصة بحدث أكثر سطوعا يريد شيطنة الشرق أو تجريم الغرب أو السفسطة بأن نظاما دوليا جديدا على وشك الظهور، فهي المدينة التي سطع نجمها في انتفاضتين غائبتين في قعر الذاكرة، وهي أيضا صورة الظلم في تقديم ما يحدث على أنه “عمليات عسكرية”، فما جرى له بعد آخر لا يرتبط بغايات قوات الاحتلال، لأنها اختبار لطاقتنا على استحضار “جذور الألم” و البحث عن “خلاص” آخر يعيد جذوة الروح لنفوس غارقة في مسار التشتت.
قصة جنين لا تبدأ بأصوات الانفجارات، ولا تنتهي بمسارات الخوف وسط ركام المباني والأزقة، فهي جغرافية الضياع التي تجعل قضايانا حالة “هلامية” يمكن نسيانها لحظة الاتفاق على “وقف إطلاق النار”، أو عندما يبدأ “القادة” بالتفاوض للدخول في هدنة طويلة لذاكرتنا فقط، فآلة الحرب في فلسطين لا تملك أي قرار للتوقف، هي بتكوينها حالة استنفار يبرر “الوجود” الخاص لـ”إسرائيل”.
وفي رواية جنين أيضا لحن عابر يختبر قدرة الأجيال على الانتباه لظواهر أخرى خارجة عن إيقاع “البهرجة الافتراضية” التي تحاصرنا، وربما علينا تفسير الحدث الفلسطيني من جديد، ورؤيته من زاوية “ثقافة” تحتضر في الذاكرة، وضجيج يتعمد وضعنا في دوائر مغلقة تجعلنا عاجزين عن تفكيك لغز الحدث الفلسطيني الذي يظهر ويغيب بشكل دوري، فبعد أكثر من سبع عقود على “النكبة” هناك إرباك حقيقي في بقاء الحضور الفلسطيني في ذاكرتنا، وفي قدرتنا أيضا على جعله حضورا قادرا على النمو دون أن يصبح كوفيات و عصبة سوداء فقط.
كتبت جنين سطورا سريعة لألم حاد اجتاح ذاكرة البعض، ومر بشكل عابر داخل مجتمعات غارقة بأوهامها، وفي لحظة عودة الجغرافية الفلسطينية إلينا كمساحة تحدٍ لوجودنا كـ”إبداع” وليس فقط صمود أمام آلة القتل، عندها ستعود جنين إلينا وسيرجع الزمن الفلسطيني ليرسمنا من جديد.