Site icon هاشتاغ

أوكرانيا والمفارقة الأوراسية

خطوط حمراء

هاشتاغ_مازن بلال

من المهم أن نقرأ الحروب في كونها تحولات جذرية في حركة البشرية، فهي لا تحتمل بذاتها كعمل عنيف تقييما عاديا بين خير وشر، فالحرب في أوكرانيا هي جزء من هذه الصورة المستمرة يمكن إسقاطها على خارطة المصالح، وليس على حسابات المواقف السياسية بين مؤيد لموسكو أو معارض لها.

في المقابل؛ فإن هذه الحرب أو “الاجتياح الروسي” لأوكرانيا حسب المصادر الغربية، لن تكون بعيدة عن التغيرات التي ستحدث لاحقا على مستوى العالم بما فيه سورية، وبغض النظر عن حجم التأثيرات الممكنة، لكننا سنواجه تداعيات هذه الحرب من منظور عالم يتبدل، وأسواق كبرى يتم تجزئتها وانكماش في الاقتصاد العالمي، فما يحدث سيحمل معه عالما مختلفا حتى لو بقيت الخرائط السياسية دون تبديل.

عمليا فإن “المفارقة الأوراسية” تلازم الحدث الأوكراني تاريخيا، ودون الدخول في تاريخ الصراعات الطويل في هذه المنطقة، إلى أنها كانت تقدم موازين قوى أوروبية مختلفة عقب اندلاع أي نزاع، فبقدر الحديث الروسي البوم عن “الاستقرار” هناك رهانات أخرى على تغير جذري في موازين القوة بين شطري أوروبا، فالمسألة هنا تحمل رهانا روسيا على كسر خيارات كييف تجاه الغرب، وفي نفس الوقت تزعزع ثقة البلطيق بمسألة الاستقرار وتدفع حلف الناتو إلى استخدام خيارات التصعيد.

خلال ثلاثة عقود شهدنا حربين في أوروبا: الأولى في يوغوسلافيا السابقة والثانية ما يحدث اليوم في أوكرانيا، وإذا كانت الحرب اليوغوسلافية تشكل تصفية لشكل النظام الدولي أيام الاتحاد السوفييتي، فإن ما يحدث اليوم يعتبر الأخطر لسببين:

الأول أن انقسام المواقف السياسية بين الشرق (روسيا والصين) والغرب (أوروبا والولايات المتحدة) أصبح فيزيائيا، فخيارات موسكو لم تعد في التفاوض السياسي لمرحلة ما بعد الحرب، فهناك قطيعة غربية كاملة أقسى من مراحل الحرب الباردة.

أمام قيادة الكرملين اليوم هامشا من إثبات القوة وفقط، وتثبيت التحالف الشرقي مع الصين في ظل واقع دولي معقد أبعد الحدود، فالحسم العسكري أو السياسي عبر التفاوض مع الحكومة الأوكرانية يحمل أيضا اختبارا لقوة موسكو في قيادة تحالف مختلف، فرغم أن الصين شريك قوي لروسيا لكنها في نفس الوقت شريك “السوق العالمي” الذي يعتبر ضمانة لنموها، ومن الصعب اليوم تخيل سوق مواز لما هو موجود حاليا تقوده موسكو وبكين.

السبب الثاني أن بكين وموسكو ستواجهان عاجلا أو آجلا الرغبة الأمريكية في الحد من نفوذ البلدين، فالحرب في أوكرانيا ستؤثر على الصين نتيجة ارتفاع أسعار الطاقة، وتدرك بكين أن مثل هذه الصعوبات كانت قبل الحرب الحالية حالة مؤجلة، لكنها في النهاية ستتجابه مع المصالح الأمريكية عبر العالم.

ردة فعل الصين ستبقى ضمن التساؤلات الكبرى لأنها بالتأكيد لن تدخل مجازفة التصعيد الآن، فهناك ميزان قوة يتشكل في أوروبا نتيجة الحرب وذلك بغض النظر عن نتائجها، ففي أوراسيا غالبا ما تغير الحروب توزع القوة في القارة العجوز، وهو أمر مقلق بالنسبة للجميع لأن الحروب الكبرى كما عرفناها خلال القرنين الماضيين لا تندلع في الولايات المتحدة، بل في أوراسيا حصرا وتمتد على طول العالم القديم وصولا إلى الصين.

روسيا تقوم بصراع تقليدي قامت به مرارا منذ روسيا القيصرية، ولكن العالم سيتحول اقتصاديا على الأقل نتيجة ما يحدث، والنظام العالمي الجديد لن يظهر كما كنا نعرفه سابقا، فهو نظام سائل لا تقيده الإرادات السياسية بقدر ما تؤثر عليه المصالح الكبرى التي لا تخضع غالبا لإرادة الدول.


لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

Exit mobile version