Site icon هاشتاغ

الأبناء “لا يضرسون”

الأبناء "لا يضرسون"

الأبناء "لا يضرسون"

هاشتاغ-نضال الخضري

سأعكس القاعدة لأن زمن الحروب يبدل كل التصورات، ويعيد تكوين العالم فيخلق كل شيء من خارج ما هو متوقع، وعندما “آكل الحصرم” أراقب أبنائي وهم يتلذذون بالحمض الجارح الذي يجتاحني، فأضرس وحدي وأنا أسترجع تفاصيل السنوات التي لم تبدأ عام 2011، بل ربما قبلها بكثير عندما بدأت مشاهد الحياة السورية تتحول نحو “الآفق المسدود”، فكبلتنا الحداثة التي كانت أشبه بـ”مولات” دبي حيث الاختيارات مفتوحة، بينما لا تتيح إمكاناتنا سوى اختيار ما يناسب عباءتنا الرثة، وربما كانت أول مرة يجتاحني بها “الطعم الحامض” دون أن ينتقل للجيل الآخر عندما قررت “ابتلاع” الحداثة وحدي.

هكذا كانت الحياة في المدن السورية التي اختارت الانتقال من الوداعة إلى زمن مختلف، فتوزعت الأسرة الكبيرة التي اعتادت العيش في بيت كبير، وزادت مساحة الأسمنت دون أن تترك لنا عباءة الماضي، وتضخم الجهاز الحكومي وتنوعت المدارس ولكنها بقيت أشبه بـ”كتاب” خلع المشرف عليها عمامته وجلبابه، واحتفظ بسلطة التحكم بالمعرفة، وبعد عقود أصبحت المدن حارات بلا “أبواب” واضحة، واحتفظ سكانها بأبوابهم الخاصة التي يصعب رؤيتها، إلا أنها تظهر سريعا في شكل العلاقة بين جيل “يشيب” وآخر يكبر على احتمالات مفتوحة لحياة نلهث وراءها.

الحرب في سورية منعتني من التأمل وفرضت قاعدتها في أشكال النجاة، وكان طعم الحصرم يجتاحني كما الجميع، ويحرمني من رؤية أجيال تكبر دون أن تلمس القسوة التي ترتسم على وجه البلد، وربما كانت تلك التجربة هي نقطة “انقلاب” الزمن على القواعد، فالأبناء “لا يضرسون” ولا يعيشون في عباءاتنا، إنما ينسجون “حداثة” على سياق الهزائم التي مررنا بها، فإذا ما مررت صدفة أمام مدرسة ابتدائية لن يدهشني طفلة تضع “الحجاب”، ولن يفاجئني أيضا صبايا وشباب يملؤون الحانات والمطاعم في زمن سوريِ عصيب.

في رواية لجدتي تتكرر الصدف السعيدة التي تنقل الأسرة الفقيرة من مطبات الفاقه، وربما تجعل من بنت مجهولة أميرة أو شاب شجاع ملكا، ورغم انتهاء عصر الجدات كرواة للحكايا لكن الأمر لم يتبدل كثيرا، فأنا لا أملك حكاية أرويها يوما ما لأحفادي، وسرديتي الوحيدة تقف في مساحة الفصام المر بين جيل وآخر، فالجدات اليوم لسن حكيمات قادرات على رسم حكايات تلهب أحلام الأجيال، والصغار أيضا لا يملكون متسعا من الوقت كي ينظروا بتفاصيل العمر المحفورة على وجوه جداتهم، فهم يملكون زمنا مختلفا بكل شيء لكنه مازال يستند على عباءات مهترئة من “حداثة” لا تملك شخصية، وتراث لا نعرف متى سيصحو ليغلف الأطفال بمظهره القاسي.

الأجيال الشابة لم تعد “تضرس” من أكلنا للحصرم، لكنها تتعثر بنا ونحن نسترجع العقود التي عبرناها دون أن نصل للمستقبل، فنحن على ما يبدو نراه بعيون الآخرين ونستهلكه ونحن نشاهد أبناءنا عالقون بين أزمنة متعددة تكرر تجارب الماضي بصور أشكال مختلفة.

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام
Exit mobile version