Site icon هاشتاغ

عن “ألم الذاكرة” في الغياب

الذاكرة
هاشتاغ _ لجين سليمان
اقتربت نهاية السنة الصينية، وأصرّت إحدى صديقاتي أن أمضي إجازة العيد معها ومع عائلتها في الريف، ففي ثقافتهم التقليدية تعدّ الأعياد فرصة للاجتماع العائلي، ولذلك من غير المحبّذ أن أمضي العيد وحيدة، خاصة وأنني في بلد غريب.
حاولت التهرّب من الأمر كوني بالفعل مشغولة ولا وقت كافٍ لديّ، إلا أنها أصرّت قائلة “في الأعياد تجتمع العائلات، والصين بلدك الثاني، والإنسانية عائلة واحدة، ولو مرّ العيد وأنت في بلدك من المؤكد أنك لن تكوني وحيدة”.
استسلمت وذهبت معها برفقة بعض الأصدقاء، وفي الطريق إلى منزل الأجداد اختاروا أغنية إنكليزية بعنوان “مئة ميل بعيدة عن الوطن” وكان هدفهم ألا أشعر بالغربة في هذا اليوم الذي تخلو فيه الشوارع الصينية من المارّة، لم يعلموا كم تؤلمني أغاني الحنين، أنا التي قاطعت فيروز منذ زمن.
وصلنا إلى منزل العائلة الكبير، حيث الجدّ والجدة ينتظرون الأحفاد بلهفة، هذا المشهد الذي ربما حُرمت منه مئات الأسر السورية اليوم.
حاولت أن أستمتع بمشهد اللقاء، وتعمّدت الهروب من ذكريات العيد في سورية، إلا أنه وكلما ظهر مشهد مشابه لما عشته في السابق كنت أقع ضحيّة الذكريات، فحضور البلاد كان أقوى من سيطرتي على ذاكرتي.
جاء موعد العشاء الكبير، هذا العشاء المهم جدا بالنسبة للصينين في هذه الليلة، يصنعون فيه مختلف أنواع الأطباق الصينية التقليدية، فهم يفخرون بمأكولاتهم، ويحرصون دائما على عدم تشويه مائدتهم بمأكولات الوجبات السريعة كالهمبرغر وما شابه،
وعلى الرغم من أني أحب الأطباق الصينية، إلا أنها في هذا اليوم لم تثر شهيتي، لأنّ مائدة العيد السورية كانت حاضرة في ذهني، تخيّلتُ “الجياوزيه الصيينية ” على أنها “كبة” والـ “باوزيه” على أنها فطائر بالخضار، و “الأرز” مع مرقة “الشوربة” على أنه “أرز” مع “الفاصولياء”.
لم أسع إلى استحضار العيد السوري ولمّة العائلة في سورية، إلا أن الصور كانت تحضر تلقائيا، عزيمة أول يوم العيد عند “عمتي”، المزاح والضحكات، تلك الأجواء التي يذكّرني بها أدنى تفصيل هنا.
حاولت الحفاظ على ذاكرتي بعيدا كي أعيش معهم هذه اللحظة الصينية، مؤمّلةً نفسي أنّي سأعود يوما وأسترجع الماضي مع عائلتي، على الرغم من يقيني بأنّ الماضي لن يعود كما كان، وإنما بشكل آخر.
حاولت تطبيق نصيحة أمين معلوف في كتابه “الهويات القاتلة” :
“من أجل التوجه بإصرار صوب الآخر يجب أن تكون الذراعان مفتوحتين والرأس مرفوعاً. ولا نستطيع فتح ذراعينا إلا إذا كان رأسنا مرفوعاً. إذا شعرنا في كل خطوة أننا نخون أهلنا ونتنكّر لأنفسنا يصبح تقدّمنا باتجاه الآخر باطلاً”.
عملت على إقناع نفسي بالاندماج في أجوائهم إلا أن الماضي كان أقوى، والبلد كان أكثر حضورا في داخلي من أي انفتاح على أي حضارة، رغبة جامحة تملكتني بالعودة إلى البلاد ولو لساعة واحدة فقط لممارسة طقوس العيد مع من أحب، وبعدها لا مشكلة في العودة والانفتاح على حضارة أخرى وأكل “المعكرونة الطويلة” و “الأرز الصيني الحلو”.
مساكين نحن السوريون في هذا العالم، لاجئون .. مؤيدون ومعارضون، نحن أبناء الشتات، نحن أولاد الاغتراب، نحن من نعتقد في كل لحظة أننا تغلّبنا على الألم بتجاوز عتبته القصوى، نحن من نأمل أنّ القادم سيكون أفضل لأنّ ألم الماضي كان الأقسى، فيظهر لنا ألم جديد في كل مناسبة وعيد ومهرجان، ألم بمظاهر مختلفة ولكنه يحمل الاسم ذاته إنه “ألم الذاكرة” ..”ذاكرتنا سورية”.
Exit mobile version