Site icon هاشتاغ

انهيار إمبراطورية المذيعات

في إحدى الجلسات النسائية، تتباهى مذيعة تلفزيونية سابقة بماضيها الإعلامي عندما كانت كلمتها «تهزّ مبنى التلفزيون».

هاشتاغ-رأي-صدام حسين

في زمن «القناة الواحدة»، كانت مهنة المذيعة طموحاً صعب المنال مع سيطرة المحسوبيات والفساد.

ويحكى أن بعض المذيعات كان لهن سطوة أكبر من وزير، نتيجة ارتباطاتهن الأمنية وأحياناً العسكرية، لدرجة أن بعض وزراء الإعلام كانوا يغيّرون طاقم الوزارة بكامله عند استلام مناصبهم، ولا يقتربون من بعض المذيعات، خشية الإطاحة بكراسيهم، نتيجة نفوذهن في الدولة.

بدأت «إمبراطوية المذيعات» تهتز مع استقبال السوريين بضعة قنوات من دول الجوار، واكتشافهم مذيعات أكثر جمالاً ورشاقة وتحرراً.

انهارت «إمبراطوية المذيعات» تقريباً مع انتشار الأطباق اللاقطة ذات الثمن الزهيد، وانكفاء الجمهور عن متابعة التلفزيون الرسمي، في ظل وجود عشرات الفضائيات المنوعة، وأصبح بإمكان المشاهد «تغيير المذيعة» والقناة التي لا تعجبه بكبسة زر، انتهى زمن فرض مذيعة ما على المشاهد، فقط لأن لها علاقة خاصة بمسؤول مهم.

لم يعد الجمهور مضطراً لمشاهدة حضورها الثقيل وسماع مخارج حروفها الكارثية وثقافتها الضحلة.
مع انخفاض نسب المشاهدة، لم تعد مهنة «المذيعة» مغرية على التلفزيون الرسمي في الدول العربية، وباتت التنازلات المطلوبة أكبر من طموح الشهرة.

انهارت منظومة المذيعات الرسمية، وتشكلت على أنقاضها منظومة جديدة قوامها مذيعات الفضائيات، ومعظمهن «نزحن» من الإعلام الرسمي العربي تجاه الخليج.

انتقلت سطوة المذيعة من الإطار المحلي الضيق إلى المجال العربي الواسع، وأصبحت المذيعة الفضائية تضرب بسيف دول عربية وإقليمية، وراحت تشبك علاقات عابرة للحدود مع مسؤولي الدول.

انتقل مرض المذيعة المحلية إلى الفضائيات العربية، وظهرت الواسطات والمحسوبيات على نطاق أوسع.

لم تعمّر هذه «الجمهورية» كثيراً وسقطت أمام الزحف الفضائي لآلاف القنوات، بسبب سهولة وإمكانية شراء وترخيص القنوات الفضائية وتكاثرها كالنمل.

أصبحت تولد في كل ثانية مذيعة، وغصت الفضائيات بالوجوه الجديدة، حتى ظهرت برامج هواة خاصة باختيار المذيعات، وانتشرت ظاهرة القادمات من عالم الجمال والمكياج، وفي عصر «تسليع المرأة» أصبح للمذيعة عمر افتراضي كعارضة الأزياء ينتهي في «سن اليأس».

أصبح «الرعيل الأول» من المذيعات في سباق مع الزمن، وانتشرت ظاهرة عمليات التجميل في صفوفهن لمواكبة المتغيرات، حتى أجهزة المخابرات فشلت في إنقاذهن من الطوفان.

كان «الجيل الثالث» من المذيعات الأقل حظاً على الإطلاق، مع الانتشار الواسع للانترنت والأجهزة الذكية، وشكلت السوشال ميديا ضربة قاضية لهن، فأصبحت أي «بلوغرز» أو «فاشنيستا» أو «إنفلونسر» مراهقة قادرة على حصد مشاهدات تساوي عدد مشاهدات كل المذيعات العرب مجتمعات.

لم تكن رحلة المذيعة العربية خلال الأعوام الثلاثين الماضية صحيّة مهنياً، ولكن الحال لم يكن كذلك في بداية التلفزيون بالعالم العربي.

فعندما أطلق التلفزيون السوري إشارته الأولى قبل ستين عاماً، اختار مذيعاته بأسلوب مهني بحت.

المدير الأول للتلفزيون صباح قباني، وهو شقيق الشاعر نزار قباني، بحث عن مذيعات من العائلات المرموقة، يحملن مؤهلات علمية تؤهلهن لدخول بيوت السوريين أول مرة، وعندما رفضت إحدى العائلات الدمشقية المحافظة انضمام ابنتها للتلفزيون، ذهب بنفسه لإقناع أسرتها.

كانت نادية الغزي من أوائِل النساء في التلفزيون السوري، وقدمت برنامج «البيت السعيد» اليومي الذي أخرجته الراحلة غادة مردم بيك، ولا يمكن حصر الأسماء النسائية المهنية التي مرت على الشاشة الرسمية في مقال واحد.

هذه المعايير المهنية ذاتها جعلت الإعلامية الأميركية «باربرا والترز» تستمر على الشاشة وهي في التسعين من عمرها، وتصنف كأعظم نجوم التلفزيون إلى الأبد، لأنها اتكأت على مهنتها فقط.

أما «أوبرا وينفري» المصنفة أكثر الشخصيات تأثيراً في العالم، فأوصلت بتأثيرها باراك أوباما إلى رئاسة أميركا، وليس العكس.

عربياً ربما يشكل لبنان تجربة فريدة بالنسبة لتجربة النساء في عالم التلفزيون والإعلام عموماً، رغم سقوط الكثير من مذيعات الإعلام المحلي في فخ الاستقطاب السياسي، وربط مصيرهن المهني بشخوص السياسة وتقلباتها المفاجئة وغير المتوقعة، والترويج لهذا التيار أو ذاك.

خلطة من “السياسة والمال وعالم المخابرات والمحسوبيات والفساد” في بلداننا العربية قلبت معايير الإعلام رأساً على عقب، فاهتزت صورة المذيعة المحترمة، وأصبحت كلمة مذيعة ذات دلالة سيئة.

ورغم ذلك نجد في كل الأجيال مئات الإعلاميات المهنيات، يعملن في الظل أو يناضلن على الشاشة رغم محاربتهن، ولا يحصلن على حقوقهن بالشهرة.

أسماء كثيرة ظلت على الهامش، أو هربت نحو الصحف وإعداد البرامج، وبقين خلف الكواليس، أو تم إقصاؤهن إلى الإذاعة، التي لا تثير شهوة الطامحات للشهرة والأضواء.
سقطت «دولة المذيعات» الأخيرة أمام عالم التفاهة في السوشال ميديا، بسبب ضحالتها، لأنها دولة أسست على الوهم والغرور.

تغير المزاج الشعبي، وانتهى عصر الجمهور «المكبوت» الذي يلهث خلف جمال المذيعة، وأصبح لديه خيارات لا متناهية من المواقع لإشباع رغباته، جمهور لا يمكن إقناعه بسهولة فالخبر يصل إليه أحياناً قبل وصوله إلى غرف التحرير.

وعندما يخصص المشاهد «الذكي» وقتاً للجلوس أمام التلفزيون فإنه يبحث عن الجديد والمعلومة والخبر بطريقة سلسة، وليس لديه وقت لمشاهدة عرض أزياء، أو تأمل جمال هذه المذيعة أو تلك، فهناك الكثير من الجميلات على السوشال ميديا.

عصر جديد يضع المهمة الأساسية للمذيعة أو الإعلامية على المحّك، ويعيد تعريف «من هي الشخصية العامة»، وحتى تعريف هذه المهنة برمتها.

آلاف الوجوه النسائية مرت على التلفزيون، وخرجن منه بلا شيء، انتهت حكاياتهن من «نجمات» على الشاشة الصغيرة إلى ثرثارات ومدعيات في الصبحيات، لا ماض ولا حاضر ولا مستقبل، ولا أثر يذكر، لأن البقاء للمهنية فقط.

وجوه لمعت بلا أساس، فأحرقت الشاشة غرورها الأعمى، لأن ما بدأ من الفراغ ينتهي في الفراغ.

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

Exit mobile version