Site icon هاشتاغ

حرب العقوبات والعالم الجديد

هاشتاغ_رأي مازن بلال

كانت العقوبات الأمريكية شكلاً محدوداً مهما بلغت شدتها، فهي ضمن الآلية الأمريكية تدخل كتعبير عن سطوة قيمها، وفي نفس الوقت بقيت طوال الحرب الباردة حداً يفصل العالم وفق المحاور التي شكلها النظام العالمي بعد الحرب العالمية الثانية، لكن العقوبات غدت شكلاً دولياً منذ انحسار النفوذ السوفييتي في نهاية الثمانينات، وظهرت بقسوتها بعد حرب العراق لتصبح حرباً مفتوحة من “السوق العالمية” تجاه أي منظومة سياسية خارجة عن النسق الأمريكي عموما، وما يحدث اليوم ضد روسيا لا يبدو غريباً ضمن إطار السياسة الأمريكية؛ لكن المفارقة أن العقوبات التي تفرضها واشنطن أصبحت ظاهرة تتجاوز الضغط السياسي، وتحاول احتكار “السوق الدولي” بالكامل.

عمليا نبهت الحرب الأوكرانية على التعقيدات التي تحكم النظام الدولي في شكله “السائل”، وهذا المصطلح الذي استخدمه زيجمونت باومان في سلسلة من الكتب لم يصل إلى مرحلة قراءة النظام على أساس السيولة، إلا أن كافة المظاهر والقيم تنطبق على مرحلة ما بعد الحرب الباردة، فالحالة السائلة التي تعني “انفصال الإرادة عن الفعل السياسي” ميزت التحول الطويل منذ التسعينات وحتى اللحظة، فهي “النظام الدولي” الذي لا يمكن تمييزه بدقة؛ وصولا إلى المرحلة الحالية التي تبدو فيها الحرب في أوكرانيا شكلا من الفصام داخل نظام السوق العالمية.

بيانات موسكو تتحدث عن الأهداف العسكرية التي تم تدميرها، بينما تصريحات واشنطن والعواصم الأوروبية تصعد من العقوبات التي باتت تشكل عبئا دوليا، فموسكو خلال العقدين الماضيين عمقت من التنافس على السوق العالمية، وذلك عبر شراكات مع الصين والهند وجنوب أفريقيا، وهذه الدول امتنعت عن التصويت في الجمعية العامة ضد روسيا قبل أسبوعين، وإذا كان من الصعب قراءة مسار تداعيات الحرب إلا أننا نملك مؤشرين أساسيين:
– الأول هو أن العقوبات أوضحت أن نظام السوق العالمي لا يحتمل تأثيرات طويلة الأمد، فروسيا ليست لاعبا اقتصاديا قويا فقط بل سوق لا يمكن تجاهلها على الأخص بالنسبة لأوروبا.
يتم وضع العقوبات في سياق معاكس لحالة العولمة وانفتاح الأسواق، وتجميد الأصول الروسية للحكومة والأفراد يبين أن هامش الأمان لتنقل رؤوس الأموال أصبح في دائرة الخطر، فالشبكة المالية من المفترض أن تتجاهل الدوافع السياسية أمام مصالح السوق، بينما ما يحدث يكسر القاعدة الأساسية التي سارت عليها “الطبقة المالية” التي تعتبر في قمة النظام الاقتصادي الدولي.
– الثاني نوعية الحرب الحالية التي يراهن الطرفين على امتدادها الزمني، فالولايات المتحدة تسعى لإضعاف الاقتصاد الروسي وانهاكه، وذلك على سياق سباق التسلح في ستينيات القرن الماضي الذي قاده “روبرت مكنمارا” وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، وأدى لتباطؤ النمو في الاتحاد السوفيتي، بينما تريد موسكو الوصول لمرحلة تعجز فيها أوروبا عن احتمال أزمة الطاقة فتبدأ بتميز مواقفها عن الولايات المتحدة.
بالتأكيد فإن الحرب الحالية مرتبطة بالأمن القومي الروسي الذي اهترأ منذ انهيار الاتحاد السوفييتي، لكن الوجه الآخر هو مواجهة نظام قيم السوق الذي تتزعمه الولايات المتحدة، ورغم أن هذا الصراع وفق المعطيات الاقتصادية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يميل لصالح الولايات المتحدة، لكنه يعتبر شكلا من “سيولة” النظام الدولي الذي يناقض نظام السوق الأقوى عمليا، مما يجعل الصراع الحالي شكلا غير مسبوق، على الأقل في التاريخ المعاصر.


لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

Exit mobile version