Site icon هاشتاغ

لعبة الكبار

*أيمن علوش

أعتقد أنه من الخطأ أن نظنّ أن روسيا لم تضع في حساباتها كلّ ما يحصل من مواقف وإجراءات دوليّة، أو على الاقل معظمها، فروسيا تمتلك كافّة مقوّمات الدولة جغرافيا واقتصاديا وعسكريا، ولديها من أجهزة الاستخبارات ومراكز ومؤسسات البحث الاستراتيجية ما يجعلها تحقق مصالحها، وهذه الحسابات الدقيقة هي التي جعلت الرئيس الأمريكي بايدين يعترف بشيء من العجز بأن “العقوبات كانت بديلاً عن الحرب العالميّة الثالثة”.

وفي الوقت الذي كانت تراقب فيه تمدّد حلف شمال الأطلسي “الناتو” كانت الدولة الروسيّة تبني تحالفاتها الاستراتيجية والعسكرية والاقتصاديّة وتعقد الاتفاقيات مع الدول التي لا تدور في الفلك الأمريكي أو تلك التي تشبهها مثل الصين، والدول التي ذاقت مرارة الاستعمار والسياسات الأمريكية المتعجرفة والمتعالية على كافة القوانين الدولية والقيم الأخلاقية مثل دول بريكس و إيران وفنزويلا وسورية وكوبا، ودول أخرى تدور في الفلك الأمريكي أيضاً مثل تركيا، واستطاعت أيضاً أن تستثمر في الأزمة السورية بما يخدم تواجدها على المتوسط وفي إظهار نفسها كصديق يمكن الاعتماد عليه، الأمر الذي دفع بجهودها لمجتمع ثنائي القطبية.

يدرك بوتين، رئيس المؤسسة الاستخباراتية الروسية (ك ج ب)، ورئيس روسيا لسنوات طويلة بأنّ أمريكا لا تقبل نداً لها، لأن ذلك من شأنه أن يُضعف جبروتها وتماديها، وهي تريد العالم كلّه أن يكون خاضعاً لها عسكريا واقتصاديا وثقافيا، ويدرك بوتين أيضاً ان الناتو ليس إلا أداة ترهيب وهيمنة أمريكبة، ليس فقط على الدول والقوى المناهضة لها، بل أيضاً على الدول الأعضاء في الناتو، ويذكر جيداً ان أمريكا حينما رفضت طلبه الانضمام إلى الناتو إنما كانت تعلنه عدواً لها.

من الطبيعي أن لا تقف روسيا متفرّجة على توسع الناتو على حدودها، وهي تدرك جيداً أنه يسعى ليس فقط إلى تهديد أمنها الاستراتيجي، بل أيضاً عزلها أوروبيّا ودوليّا من خلال إظهار عجزها عن ردع دول جارة له عن الانضمام لمعسكر العدوّ، وهو الأمر الذي لم يترك أمام الرئيس بوتين خياراً آخر غير إعادة رسم حدوده الغربية بما يدفع بالناتو بعيداً عن دولته ويضمن مستقبل مستدام للقرم.

أعتقد ان الحرب الروسية تسير كما هو مخطط لها، وبوتين لم يغفل جانباً واحداً يتعلق بقراره، ومن يراقب ردود الفعل الأوروبية يكتشف أن الرئيس بوتين، بحشوده العسكريّة الضخمة ووضعه قوات الردع النووية في حالة تأهب، قد وضع سقفاً لمواقف الطرف الآخر، فمعظم المواقف كانت في حدودها الدنيا بالرغم من ارتفاع مستوى التصريحات الدولية، ومعظمها بتقديري كانت بإملاء أمريكي وبريطاتي بشكل أساسي، حيث اقتصرت هذه التصريحات في كثير من الدول على المساعدات الماديّة وأسلحة بسيطة وتسهيلات اللجوء وقرارات عزل ومعاقبة روسيا.

أعتقد أن هدف بوتين يتجاوز الانصياع الأوكراني بعدم الانضمام للناتو أو عدم التفكير بتطوير أسلحة نووية أو الاعتراف بضم شبه جزيرة القرم، فروسيا بتقديري لن تقبل بأقل من تحويل البحرين الأسود وآزوڤ إلى مياه إقليمية لها، ومن يتابع الأحداث سيجد أنه في الوقت الذي تتجه فيه الأنظار إلى القوات القادمة من الشمال باتجاه كييف توسّع روسيا سيطرتها على الحدود الجنوبية مع البحر الأسود وصولاً إلى ميناء أوديسّا، وقد يتجاوز الطموح الروسي هذا الهدف وخاصة أن محور أعدائه قد وصل في مواقفه إلى سقف مقدراته بعد أن وقف عاجزاً عن تطويره إلى نزاع عسكري.

تصوّت ١٤١ دولة في الجمعيّة العامّة على قرار يدين روسيا ويطالبها بوقف الحرب، وتتفاجأ روسيا بأن دول صديقة وحليفة اكتفت بالامتناع عن التصويت، وبغض النظر عن وجهة نظر روسيا بأحقيتها في حماية حدودها، وكذلك بتجارب سابقة عن تغيير أنظمة بالقوة أو كما يعتقد مراسل CBS News “بأن الشعب الأوكراني أوروبي ومتحضّر ليس كالعرب والمسلمين”، فإن القوة لا يمكن أن تكون أداة اكتساب النفوذ وتحقيق المصالح ، فالثمن الإنساني لما يحصل في أوكرانيا كبير جداً، ولا يمكن لنا نحن سكان هذه المنطقة تجاهل معاناة الآخرين، خاصة أننا أكثر من عانى من ظلم الاحتلال والحروب وتدخّل الخارج لدعم أنظمة ديكتاتورية لجعل قرار الحرب أكثر حضوراً وجعل منطقنا ملتهبة خدمة لمصالحة الاستراتيجية ومصالح شركات النفط والسلاح وإعادة الاعمار.

لم تخفِ وسائل الإعلام العالمية جهود الولايات المتّحدة وبريطانيا لحثّ الدول للتصويت لصالح القرار، أو الامتناع عن التصويت كحدّ أدنى، وهذا بحدّ ذاته يجعلنا على يقين أكثر بأن معظم دول العالم محتّلة من الدول العظمى بأشكال مختلفة.

* دكتور في السياسة الدولية

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

Exit mobile version