Site icon هاشتاغ

“للبيع.. وطن بمليون ليرة!”

خطوط حمراء

هاشتاغ_رأي كيان جمعة

صديقي “عارف” رجل عصامي متمسك بالقيم النبيلة والثوابت الوطنية، يسكن إحدى ضواحي دمشق في منزل تغيب عنه الكهرباء ولا تصعد إلى خزانه المياه، وقد أصاب الفراغ ثلاجته، ونخر البرد عظامه.. باختصار؛ يعاني من المعضلات اليومية التي يشترك فيها مع أغلب السوريين.

وبالرغم من ذلك مازال عارف يواظب على متابعة وسائل الإعلام الوطنية عندما تسمح له الظروف، ومازال مقتنعا بشفافيتها وشفافية من يقف خلفها، ومؤمنا بتصريحات المسؤولين السوريين حول الانفراجات القادمة في عام 2022 ؛ ربما هو يقنع نفسه بذلك كي يشعر بالأمان، وربما يشعر فعلا بأن كل شيء سيكون على ما يرام! .

تلقى عارف دعوة من شقيقته لزيارتها في إحدى الدول العربية فوافق فورا؛ ليس حبا بالغربة أو السفر أو الهرب من الواقع المرير، فهو يعلم أن الانفراجات قريبة “عضة كوساية” ولا حرج من قضاء إجازة قصيرة يشحذ فيها طاقته الإيجابية ويعزز فيها صحة خياراته الوطنية، لكنه عندما تفحص جواز سفره اكتشف أن آخر مرة استخدمه كانت قبل 15 عاما، أي أن صلاحيته منتهية ويحتاج جوازا مستعجلا .

دخل عارف إلى أحد فروع الهجرة والجوازات وبيده مصنفا يحتوي بعض الأوراق والمستندات الشخصية، وفي جيبه مبلغ مئة وألفي ليرة كرسوم للجواز المستعجل، فالأمر بسيط برأيه ولا يحتاج إلا لدفع الرسوم واستلام جواز السفر الجديد مع القليل من الإكراميات كـ “حلوان” أصبح عرفا في مؤسسات الوطن و”على عينك يا مواطن”.

لكن ما لم يتوقعه صديقنا المتفائل حاله حال أي مواطن يتابع القرارات والمراسيم والقوانين التي تنشر عبر وسائل الإعلام الرسمية، أن مدة استلام الجواز المستعجل والتي من المفترض أن تكون يوما واحدا -بحسب القانون- ستطول عدة أيام وربما تصبح أسابيعا وقد تمتد لأشهر، فإذا كنت مستعجلا يا أخي المواطن “عنا أزمة ورق” عليك الوقوف في طوابير السفر التي تمتد لساعات، وإن كنت من أصحاب الحظ السعيد تصل قبل نهاية الدوام للتسجيل على الدور من أجل التسجيل على الجواز، وهو الأمر الذي سبب له تأخيرا كبيرا بمواعيده وخططه التي كان رسمها لقضاء الإجازة الإيجابية في تلك الدولة الشقيقة.

عاد صديقي خائب الأمل يجر جواز سفره منتهي الصلاحية وراءه ملقياً باللوم -كأي مواطن صالح- على شركات صناعة الورق الإمبريالية، ومقررا إلغاء فكرة السفر من أساسها، لكن وبشكل مفاجئ صعد تصريح أحد أعضاء مجلس الشعب السوري إلى ذاكرته وبدأت الكلمات تسيطر على تفكيره وتهز كيانه؛ فعلى السوريين أن يستمروا في التصدي لأدوات الإمبريالية العالمية وأذرعها التي تستفيد من استمرار الأزمة، وعليهم محاربتها بكل ما يملكون من عنفوان والوقوف في وجهها بكل مافي تاريخهم من بسالة وصمود .

وبشكل تلقائي أحال عارف سبب عدم إصدار الجواز إلى آثار الحصار أحادي الجانب، وتداعيات الحرب الإرهابية التي مرت على البلاد، فزادت فقر الفقراء وغنى الأغنياء، وساهمت من حيث لا تقصد بسحب الأموال من جيوب الجماهير الكادحة ونقلتها إلى حسابات النخب وأصحاب رؤوس الأموال، وأخذت معها ما أخذته من وقود ونفط وغاز وقمح وكهرباء حتى طالت أخيرا الورق الذي يصنعون منه الجوازات في مراكز الهجرة والجوازات.

تسلح عارف مجددا بالأمل وبتصريحات المسؤولين السوريين وتوجه في اليوم التالي إلى مركز الهجرة والجوازات للوقوف على طابور جواز السفر مع المئات من المراجعين، دخل هذه المرة بثقة أكبر، توجه إلى أحد العناصر الذي يتحلق حوله المراجعون بقصد سؤاله عن الوقت المتوقع لانتهاء أزمة الورق، لكن ارتفعت أصوات المراجعين بالتزامن مع حديث عارف، وتداخلت الأسئلة بشكل عشوائي فكل يريد تسيير جوازه .. “ارجعوا لورا” صاح العنصر بلهجة حازمة، قبل أن يبادره مراجع بسؤال ملح عن مدة تجديد الجواز كي لا يضطر إلى دفع مبالغ عالية بالعملة الأجنبية إذا أراد تجديده من بلد الاغتراب، ومع انتهاء الجملة الأخيرة للمسافر، تغيرت ملامح وجه العنصر العابس وانقلبت أساريره من الحزم إلى السرور ومن الغضب إلى الفرح “اعطيني مليون ليرة لبيع الوطن كله” قال العنصر للمراجعين الذين بدت الصدمة جلية على وجوههم غير مصدقين ما سمعوا بالتزامن مع أصوات ضحك بقية الموظفين، فيما اعتقد عارف أن سمعه يخونه أو على أقل تقدير هناك سوء فهم حاصل ، لكن ضحكات الموظفين وغمزاتهم أزالت الشك من اليقين، فالجملة تشير بما لا يقبل التأويل إلى الرسم “غير القانوني” الذي ربما ألمح إليه الموظف المختص بالإجابة عن أسئلة المسافرين الذين استلسموا للأمر الواقع في سبيل قطع أذرع القوى المعادية التي تريد استغلال حقوق الشعب ومكاسبه، وبالتالي إنهاء قضية فقدان الورق في هذا الوطن المعطاء.

في هذه اللحظات تذكر عارف قصة قصيرة لمحمد الماغوط عنوانها “الوطن يساوي حذاء” والتي سأل فيها القاضي المتهم : هل كنت بتاريخ كذا، ويوم كذا، تنادي في الساحات العامة، والشوارع المزدحمة، بأن الوطن يساوي حذاء؟

– المتهم: نعم.

– القاضي: الوطن… حلم الطفولة، وذكريات الشيخوخة، وهاجس الشباب، ومقبرة الغزاة والطامعين، والمفتدى بكل غالٍ ورخيص، لا يساوي بنظرك أكثر من حذاء؟ لماذا؟ لماذا؟

– المتهم: لقد كنت حافياً يا سيدي!”

بالطبع لم يقصد فيها الماغوط التقليل من قيمة الوطن أو إهانته أو حتى ربطه بالحذاء بل حملت تعبيرا مجازيا عن معنى الوطن بالنسبة للفقراء ومن هنا برر عارف لموظف الجوازات “بيعه لوطنه” بأن الانسان ليس بقادر على حمل الشعارات بينما هو حافٍ، ولا طاقة له بالدفاع عن قيم عظيمة بينما هو جائع، وقفل عائدا مرددا في سره “اعطيني مليون ليرة لبيع الوطن كله”.

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

Exit mobile version