Site icon هاشتاغ

“الدب الروسي المارق” وحمائم بايدن

خطوط حمراء

هاشتاغ_ رأي الكميت إبراهيم

“الدب الروسي الشرير والمارق يعتدي على شقيقه الأوكراني الآمن المسالم، لإخضاعه وكسر إرادته الحرة في تحديد خياراته، وطمعا في ابتلاعه”.. هذه هي ببساطة الصورة التي نجحت الآلة الإعلامية الغربية في ترويجها كخلاصة لفكرة الحرب الروسية على أوكرانيا، كما نجحت من قبل في شيطنة صورة الاتحاد السوفييتي في العالم، ولكن ماذا عن وجهة النظر الأخرى؟.

لمعرفة ذلك لا بد من سرد بعض الحقائق والوقائع الثابتة والنظر إليها في سياقها الذي أفضى إلى الموقف الحالي.

تبدأ القصة في التسعينيات خلال مفاوضات روسيا مع الغرب للقبول بتوحيد ألمانيا تحت مظلة “الناتو”، حيث تعهد زعماء الغرب للروس بعدم توسيع الحلف شرقاً ليضم دولا محاذية لروسيا، وبالطبع لم يلتزم الغرب بوعوده مستغلا الوهن الروسي، وضم إلى “الناتو” منذ ذلك الوقت دولا ذات مكانة بالغة الأهمية جيواستراتيجيا بالنسبة لروسيا بلغ عددها حتى الآن 14 دولة.

ولفهم القلق الروسي ما علينا سوى أن نتذكر أن “الناتو” أُنشئ عام 1949 لأهداف ثلاثة حددها بوضوح “اللورد إسماي” أول سكرتير عام للحلف، وأولها “محاصرة روسيا في نطاقها الجغرافي ومنع تمدد نفوذها”، وما زال الحلف يتبنى هذه الأهداف وتفضي إليها بلا لبس كل توجهاته .

في عام 2008 كانت روسيا بدأت بالتعافي والنهوض، عندما قرر الرئيس الأميركي “ج.د.بوش” دعوة أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى “الناتو” رغم توصيات مستشاريه بعدم استفزاز روسيا ومس خطوطها الحمراء، وهو ما أسفر في النهاية عن ما سمي بحرب أوسيتيا الجنوبية، وفشل خطط ضم جورجيا للناتو. وخلال ولاية الرئيس الأميركي “أوباما” الثانية تم إحياء دعوة أوكرانيا للانضمام للناتو بعد وصول مناوئين لروسيا إلى السلطة في كييف، ونتذكر جيدا كيف أشعل هذا تفاعلات أدت إلى انقسام أوكرانيا عمليا وخسارتها القرم لمصلحة روسيا.

بعد ذلك وطوال عهد الرئيس الأمريكي ترامب كانت الأمور مستقرة نسبيا في تلك المنطقة، إذ لم يكن ترامب يرى ما يدعو إلى استفزاز روسيا في محيطها، وأخيرا وصل إلى البيت الأبيض الرئيس “بايدن”، الذي قضى معظم سنوات عمره الثمانين في ظل الحرب الباردة، وهو مشبع بفكرة أن روسيا هي العدو، والذي كان على علاقة ممتازة بالسلطات الأوكرانية، والذي لم يكد يجلس في مكتبه البيضاوي بعد حتى وصف الرئيس بوتين بـ”القاتل” في أول مقابلة تلفزيونية له، وتوعد بجعله يدفع الثمن، و ردّا على سؤال المذيع له: كيف ستدفعونه الثمن ، أجاب: سترون قريبا!.

باشر بايدن بتسليح كييف نوعياً، وشجع الرئيس الأوكراني على ملاحقة الأوكرانيين من أصل روسي، وضرب أحزابهم وإعلامهم وحثه على طلب الانضمام إلى “الناتو” مجددا وعلى الامتناع عن تنفيذ التزاماته بموجب اتفاقية مينسك. حشدت موسكو قواتها وقدمت مطالبها التي تتلخص جوهريا بتنفيذ الغرب لعهوده التي قطعها سابقا بالامتناع عن تمدد “الناتو” قرب حدودها، رُفضت المطالب غربيا بزعم أنها محاولة للتدخل في شؤون وخيارات دولة والمساس بسيادتها، وهذا الزعم قد يبدو منطقيا أو محقا لمن لم يسمع أو يشاهد وزير الخارجية الأميركي السابق “تيليرسن” أو مستشار الأمن القومي السابق “بولتون” وغيرهما كثير، يؤكدون في كل مناسبة وعلى وسائل الإعلام على ثبات مرجعية عقيدة “مونرو” في السياسة الأميركية “الفضاء الحيوي”.

وعقيدة (الرئيس الأميركي جيمس مونرو 1817-1825) لمن لا يعرف، تقول باختصار إن قارتيّ أميركا الجنوبية والشمالية تمثلان الفضاء الحيوي للولايات المتحدة، ولا يمكن السماح لأي دولة بالتدخل فيه لأن ذلك يمس مصالح الولايات المتحدة، وعمليا لم تغب بعد عن الذاكرة أحداث أزمة الصواريخ الكوبية، التي كادت تفضي إلى نزاع نووي.

و بالعودة إلى ما يجري اليوم، هل صحيح أن موسكو بالغت في تشددها حيال أهمية أوكرانيا لها، حتى تبرر حربها وأطماعها؟ الجواب يأتي هنا من “بريجنسكي” ما غيرو، في كتابه “رقعة الشطرنج الكبرى” ، الذي جاء فيه: لا يمكن لروسيا أن تصبح إمبراطورية مؤثرة في أوروبا، إذا عزلت عن أوكرانيا، بل ستكون مجرد دولة كبيرة في آسيا. أما ” جورج كينين” وهو كبير مهندسي الحرب الباردة وأهم خبير أميركي في الشؤون الروسية، فقد قال بوضوح في عدة مناسبات، إن أفدح خطأ على الإطلاق قد ترتكبه الولايات المتحدة في حقبة ما بعد الحرب الباردة، هو أن تسمح بتمدد “الناتو” قرب الحدود الروسية، وهذا ما لا يمكن لروسيا أن تقبل به بأي حال. وستسعى إلى تغييره بأي ثمن.

ربما لم يكن الرئيس بايدن ذكيا بما يكفي للاستفادة من العارفين بالأمر، وربما تسرع فأخفق في تقدير تصميم الخصم وجديته في الدفاع عن قضيته، وهاهو الآن يحاول لملمة العواقب واستدراك الأمور بحشد حلفائه لتخويف روسيا بعقوبات عديمة التأثير في الحسابات العظمى، وتحققنا من ذلك في أكثر من مناسبة، لكنه على كل حال قدم الخير لروسيا من حيث لا يدري، فطائرات ودبابات روسيا تقوم اليوم بإعادة تحديد ورسم خطوطها الحمراء وخارطتها الأمنية الجديدة، وبقبضة من حديد تُفعّل حضورها وثقلها كقوة عظمى لها حصة في قيادة العالم. أما عن ارتدادات هذا الحدث الضخم ، فانظر جانبا، سترى في الظل عملاقا صينيا هادئا، يرنو بعين إلى ما يحدث، وبالأخرى إلى تايوان، ربما.. لكن هذا حديث آخر.

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

Exit mobile version