Site icon هاشتاغ

“زهايمر”

هاشتاغ_ رأي لجين سليمان

تقوم فلسفة التقاليد الصينية على فكرة مفادها أنّ اجتماع العائلة شيء مقدّس خلال عيد الربيع (رأس السنة الصينية)، ولكن وبعد انتهاء العيد الذي تستمرّ عطلته 15 يوما تقريبا، فإنّه على زملاء العمل تبادل التهاني والأمنيات الجميلة في لقاءات مسائية.

وضمن هذا السياق كان لي موعد للعشاء مع زملاء الدراسة في الجزء القديم من المدينة، هناك حيث ترمّم الأبنية بطريقة فنية، تسمح بالمحافظة على قدمها وتضفي عليها شيئا من الحداثة بشكل غير فاقع. اصطحبني البروفسور في جولة في الشوارع القديمة كوني طالبة أجنبية لا تعرف الكثير عن تاريخ المدينة، رأيت الجدران المزخرفة بكلّ عناية حيث لكل رسم ذكرى وقصة مع شرح تفصيلي كيف كانت هذه القطعة في الماضي وكيف أصحب اليوم.

هناك في تلك الأزقّة يشعر المرء أنّ الزمن لا يتقدّم بمرور الأيام، بل هو تقدم حقيقي يقوم على الإنجاز وسباق الزمن بأيادٍ صينية، إذ إن كلّ ما سبق ذكره قد صمّمه طلاب الفنون الجميلة وأساتذتهم.

بعدها جلسنا على طاولة العشاء الدوّارة والتي تلفّ بشكل يسمح لكل فرد بأخذ ما يريد من الطعام دون أيّ عناء، وكالعادة كان الجميع يحاولون إطلاعي على ثقافتهم وعاداتهم وتقاليدهم من خلال العبارات التقليدية التي يستخدمونها لتبادل التهنئة بحلول السنة الجديدة.

وبين الرّشفة والأخرى من الشاي الصيني اللذيذ كان البروفسور يدعو أحدنا للوقوف ويتمنى له أمنية تتعلق بالعمل العلمي والأكاديمي والحياة عموما، مهنّئا كلّا منا على ما حقّقه من إنجاز علمي حتى اللحظة.

جاء دوري فتأسّف الأستاذ ومعه جميع الحاضرين لأنني أمضيت عيد الربيع بعيدة عن بلدي، وطلبوا أن أعدّهم كأفراد عائلتي فبإمكانهم مساعدتي في أيّ شيء، وتمنّوا لي العودة سالمة إلى سورية عندما أستطيع، كي أنفّذ ما تعلّمته من مشاريع وأنقل العلم الحديث متمنين أن يزوروا سورية يوما، كي أطلِعهم على ما هو قديم وتراثي كما يفعلون.

سألني أحد الأساتذة إن كان يوجد في بلدي مدينة قديمة، فأجابه الآخر نعم أنا قرأت عن بلدها يوجد في كل منطقة مدينة قديمة، وأجمل تلك المدن تقع في العاصمة، فدعوتهم جميعا إلى زيارتي وأخبرتهم أنّ الأبواب السورية مفتوحة لكل زائر.

وبينما أنا في طريق العودة كانت تصلني اتصالاتهم للتأكّد فيما إذا كنت قد وصلت إلى المنزل، خاصة وأنّ الوقت قد تأخر، وبين كل اتصال وآخر كنت أستعيد اللحظة التي غادرت فيها البلاد، كنتُ كالشجرة التي اقتُلِعت من جذورها فتألّمت وخرجت مكسورة الخاطر مقطوعة الساق لدرجة كنت أشعر فيها بالشلل، هناك في ذلك التراب حيث بقيت جذوري مغروسة في الأرض بينما الرأس في مكان آخر يتقدّم خائفا من المجهول. وأما اليوم فإنّي أخشى العودة لأني أدرك الحال تماما لأن ما أسمعه أثناء تواصلي مع الجميع، جعلني أعرف الواقع الذي ينتظرني. فحتى لو رغبت بزيارة الشام القديمة مع بعض الأصدقاء الصينيين ليلا كي أعيد التجربة ذاتها ولكن في دمشق، لن أجد أكثر من بارات أحدها يسمى “زهايمر” وربما هو الاسم الأصدق تعبيرا عن حالة البلاد، وأما باقي دمشق القديمة فلم يبق منها إلا الجمال الذي لن يتحسّسه سوى ابن البلد، فما ذنب الآخر كي أجرّه مسافات طويلة ليرى جمالا مهملا.

ماذا أريهم في دمشق القديمة، ومالذي قد يعنيهم كي يأتوا ويروها، خاصة أنهم لا يمتلكون ذاكرة لرائحتها. الأمر الذي يحدث معي تماما عندما أزور أمكنتهم وشوارعهم، أحبّها ولكنها لا تمسّني من الداخل، لأن لا ذاكرة لي فيها، ولا رائحة تربطني بها، إنما فقط أعجب بما بذلوه من جهد للحفاظ عليها. وعلى هذا اتخذت قراري الذي أخبرتهم به بأني سأمضي العيد القادم معهم، حتى لو كنت وحيدة سأصبر على وحدتي فأنا اليوم أحنّ إلى ماض لن أدركه ولن يعود ولن يبقى لنا سوى التطلع للقادم فإن عادت البلاد عدنا لا لأن الوطن فندقا نغادره متى نشاء بل لأن الوطن ذاكرة أصيبت “بالزهايمر”.

لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام

Exit mobile version