هاشتاغ-نضال الخضري
ضيق الدروب لا يلغي “الوفرة” لأنها المساحة الوحيدة التي يمكن أن تدفعنا للبقاء على الأقل، فكلما ضاقت سبل العيش أصبحت علاقاتنا انعكاسا لما يمكن أن نبدعه لكسر الفاقة أو حتى رسم “الحيل” لكسر العجز، واستبداله بألوان قادرة على منحنا ظلا يمكنه أن يتيح بقعة تأمل أو مشاركة تدفعنا من جديد، فالوفرة أسلوب حياة وتفكير في الزمن الصعب، وخروج من “شرك” ضغط الاحتياجات لتأسيس حياة نستحقها.
خلال أسابيع قليلة أصبحت تلك الوفرة في تفاصيل الألم السوري، فهي أنثى غيبتها حالة الغضب في صفحات التواصل الاجتماعي، وكسرتها تحليلات الإعلام الذي لا يعرف سوى مصطلحات ممجوجة. وعندما ظهر غضب الشارع المخنوق في مناطق بعيدة غدت العبارات القديمة ستارا لحجب جمالية الطاقة التي يمكنها التسرب إلينا، فـ”وفرة” التفكير بما حدث أصبحت دمعة غير قادرة على السقوط، ورثاء “أخرس” يخنق صاحبه قبل أن تتدحرج الحروف ليحدث سقوطها أزيزاً يعجز عن فتح مساحات الرؤية.
كانت سوريا خلال أسابيع معدودة صورة قاتمة في عين مواطنيها، وبقيت الحياة بإيقاعها الاعتيادي تدفع الجميع بعيداً عن “وفرة المشاركة” أو الخروج من أنانية الظهور بصورة المظلوم، فربما لم نعتد على رسم خيال يبعدنا عن “أنماط” الماضي القريب، ويجعلنا نتشارك التفكير بدلا من اقتسام المآسي، فقتامة “الإجراءات” الرسمية ومتاهة التفسير جعلتنا مدمنين للرسائل الذاتية، وأقفلت علينا أبواب النظر نحو لون وحيد يشكل درب القادم عبر “الوفرة”.
مشكلة الكارثة الاقتصادية في سوريا أنها باتجاه واحد لا يقبل البحث عن تجربة الوفرة عبر المشاركة، فلا “المجالس” أو “المنصات” تستطيع كسر إفلاس القرارات التي بدت لصانعيها أنها حل يجب أن يكون “سحريا”، وعلى الطرف الآخر كانت متاهة المواطن في كونه “أسير” الشكل القديم للحياة، أو أنه لا يستطيع خلق وفرة خارج “الإعانة” التي أدمنها، فأعوام الأزمة خطت شكلا قاس في شكل الحياة الذي ظهر عبر ضفتين تحمل الأولى “الهجرة” والثانية احتمال الشظف الذي تحفره الحرب في العقول.
الوفرة لا تعني إنهاء الكارثة الاقتصادية بل الاعتراف بها لفتح دروب مختلفة والقبول بـ”التجربة” الاجتماعية من جديد، فلا “التظاهر” قادر على اجتراح المعجزات ولا البحث عن دفع المسؤولية نحو طرف محدد يمكنه أن يجعلنا قادرين على الحياة بشكل عادي، وعندما نعيد خلق العلاقات بألوان “المشاركة” يمكن عندها أن تبدأ “الوفرة” بنحت مستقبل مختلف في تفاصيل حياتنا.
تجربتنا الأخيرة لم تكن مع الغلاء، ولا مع أشكال القفز فوق الواقع عبر إجراءات رسمية يصعب فهمها، إنما كانت مع “الشح” في التفكير مقابل ما تقدمه “الوفرة” من إمكانية لإبداع مشاركة مع الجميع لأن “الكل” قادر، وهذا “الكل” المحجوب أو الذي يحجب نفسه بأساليب مختلفة هو المخرج لزمن يمكنه أن يخلق على الأقل تجربة قابلة للنقاش والتعديل.