تُثير تقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدمة في استنساخ وجوه وأصوات المشاهير قلقًا متزايدًا في الأوساط الفنية والقانونية، وسط تحذيرات من أنها ستُحوِّل الشخصيات العامة إلى سلع رقمية تُباع وتُشترى دون ضوابط، سواء في حياتهم أو بعد وفاتهم.
هذه الأزمة الجديدة فرضت نفسها بقوة على صناعة المحتوى البصري في العالم، مع تطور البرامج الذكية التي باتت قادرة على إنتاج نسخ رقمية شديدة الدقة من الممثلين والمشاهير، تستطيع التحدث بلغات متعددة، وتعبّر بانفعالات واقعية، وتروج لأي منتج أو فكرة، دون الحاجة لتصوير جديد أو موافقة من الشخص الأصلي.
وفيما ينظر البعض إلى هذه التقنيات باعتبارها "تطورًا طبيعيًا" في الصناعة، يراها فنانون كبار "سرقة رقمية منظمة" تهدد هويتهم وحقوقهم وسمعتهم الفنية.
النجوم بين الخوف والغضب
أطلقت الممثلة الأمريكية الشهيرة غلين كلوز، خلال مشاركتها في مهرجان صندانس السينمائي الأخير، صرخة تحذير واضحة ضد استغلال هذه التقنيات في استنساخ ملامح الفنانين وأصواتهم دون موافقتهم. وقالت في تصريحات إعلامية: "أرفض تمامًا استخدام ملامحي أو صوتي في أي إنتاج رقمي، سواء الآن أو بعد وفاتي. هذه التقنيات تُذيب الحدود بين الحقيقة والوهم، وهو أمر خطير على الفن والإنسانية معًا."
وفي السياق ذاته، حذّر النجم روبرت داوني جونيور من توسع شركات الإنتاج في هذه الممارسات دون رقيب.
وفي تصريحات لوكالة "أسوشيتد برس"، أوضح أنه بدأ بالفعل اتخاذ خطوات قانونية، بالتعاون مع فريق من المحامين المختصين، لملاحقة أي جهة تحاول استنساخ صوته أو ملامحه رقميًا دون إذن صريح، مشيرًا إلى أن القوانين الحالية لا تزال عاجزة عن حماية الفنانين من هذا النوع من الانتهاكات.
ضحايا العقود المجحفة
لا تقتصر الأزمة على النجوم الكبار، بل تطال أيضًا الفنانين الشباب الذين وقع بعضهم في فخ التعاقدات الرقمية المجحفة.
من أبرز هذه الحالات الممثل الأمريكي آدم كوي، الذي باع حقوق استخدام صورته وصوته رقميًا لصالح إحدى شركات الإنتاج مقابل ألف دولار فقط.
لم يكن يدرك كوي أن توقيعه سيتيح للشركة إنشاء مئات الفيديوهات لنسخته الرقمية، تُروّج لعلاجات طبية مشبوهة، وتظهر في مقاطع تتنبأ بكوارث مستقبلية، رغم أنه لم يشارك بأي منها. ورغم استيائه، اصطدم كوي ببنود العقد، التي لا تمنع سوى الاستخدام في الإعلانات الإباحية أو الترويج للكحول والتبغ، لكنها تتيح للشركة حرية التصرف في صورته وصوته إلى أجل غير مسمى.
سهولة الإنتاج تقود إلى انفلات الاستخدام
تُعزز سهولة الحصول على هذه التكنولوجيا من تفاقم الأزمة، إذ لم تعد الشركات بحاجة إلى ميزانيات ضخمة أو فِرق عمل هائلة لصناعة محتوى مرئي مقنع.
يكفي أن يقف الفنان أمام شاشة خضراء لبضع ساعات، يسجل خلالها انفعالاته وصوته ببضع لغات، ليتمكن الذكاء الاصطناعي لاحقًا من إنتاج آلاف الفيديوهات لشخصيته الرقمية، في أي سيناريو وبأي نبرة، حتى بعد وفاته.
الأمر لم يعد مكلفًا، إذ تُقدم بعض الشركات خدمات استنساخ كاملة بأقل من ألف دولار، بل هناك برامج مفتوحة المصدر تتيح إنتاج فيديوهات بجودة معقولة مجانًا، ما يجعل استغلال صور المشاهير أمرًا سهلًا لأي جهة، مشروعة أو مشبوهة.
النقابات تبدأ المواجهة.. أولى الخطوات التنظيمية
أمام هذا الانفلات، تحركت نقابة الممثلين الأمريكية SAG-AFTRA لحماية أعضائها، من خلال وثيقة رسمية جديدة أطلقتها بعنوان: "إعفاء الإعلانات الصوتية الديناميكية باستخدام الذكاء الاصطناعي"، وتُلزم هذه الوثيقة جميع الشركات بالحصول على موافقة صريحة من الفنان قبل استخدام صوته في أي إعلان، مع ضرورة تحديد مدة الاستخدام، وتعويضه ماديًا عن كل مرة يتم فيها استغلال صوته أو صورته.
كما أبرمت النقابة اتفاقًا مع منصة "Narrative" الرقمية، ينص على ألا تقل أجور الفنانين المشاركين في أعمال تعتمد الذكاء الاصطناعي عن الحد الأدنى للأجور المتعارف عليه، وهو أول اتفاق رسمي من نوعه يضع خطوطًا حمراء لاستخدام هذه التقنية في قطاع الإعلانات الصوتية تحديدًا.
الوكالات الفنية تتحصن بحلول تقنية ورقابية
لم تقف الوكالات الفنية الكبرى مكتوفة الأيدي، بل طورت من أدواتها لحماية نجومها من هذه المخاطر.
أطلقت وكالة "CAA"، إحدى أكبر وكالات إدارة المواهب في العالم، خدمة متقدمة تقوم بتخزين المسح ثلاثي الأبعاد الدقيق لأصوات وملامح وحركات الفنانين، ليصبح بإمكانهم لاحقًا التحكم الكامل في أي عملية استنساخ رقمية، وتحديد شروط الاستخدام المسبق.
أما وكالة" WME" فقد وقعت شراكة مع شركة Loti المختصة برصد أي استخدام غير قانوني للشخصيات الرقمية، وإطلاق إجراءات قانونية عاجلة لحذف أي محتوى رقمي مخالف.
أزمة أخلاقية وتشريعية تتجاوز هوليود
تُلقي هذه الأزمة بظلالها ليس فقط على صناعة السينما، بل على مجمل العلاقات بين الفنان والتقنية والجمهور والقانون، إذ يرى خبراء الإعلام أن "الهوية الرقمية" أصبحت بحاجة ماسة لحماية قانونية دولية واضحة، أسوة بالعلامات التجارية وحقوق النشر.
كما يطالب العديد من القانونيين بوضع تشريعات مُلزمة تفرض على الشركات توثيق استخدام هذه التقنيات، وتُجرم الاستغلال غير المشروع لأصوات وملامح الأفراد، حتى لو كانوا شخصيات عامة.


