كشف حاكم مصرف سوريا المركزي، عبد القادر الحصريّة، عن ملامح مرحلة يعتبرها "نقطة تحوّل" في تاريخ السياسة النقدية السورية، تقوم على تعويم الليرة، وإعادة هيكلة الجهاز المصرفي، وفتح قنوات التعاون مع الخليج، وبناء منظومة مدفوعات رقمية متكاملة تربط سوريا بالعالم.
وفي مقابلة مع "سي إن إن الاقتصادية" على هامش اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن، أكد الحصرية أن التعويم الحر لليرة لا يعني التخلي عن الدور الرقابي، بل "تسعير السوق في إطار مُدار يحافظ على التوازن".
وقال إن المصرف المركزي يتدخل فقط حين تكون التحركات ناتجة عن مضاربات أو أزمات استثنائية، موضحا أن الأدوات المستخدمة تشمل أسعار الفائدة، وعمليات السوق المفتوحة على السندات الحكومية، وإدارة السيولة، وأضاف أن الهدف ليس تثبيت السعر بقدر ما هو جعله مرآة للاقتصاد الحقيقي.
المواطن يجب أن يرى أن أمواله في المصرف تحت تصرفه متى أراد وأن الودائع أمانة لا تمسّ
استعادة الثقة
وأوضح أن حذف الصفرين من العملة ليس مجرد قرار رمزي، بل خطوة لتسهيل التعاملات اليومية، وإعادة الثقة بالعملة الوطنية، وقال: "نحن لا نسعى إلى إصلاح مؤقت، بل إلى نظام نقدي جديد يعكس ثقة السوريين بعملتهم"
وشدّد الحصرية على أن المرحلة الحالية تمثل "بداية جديدة لا استمرارية للماضي"، مشيرا إلى أن المصارف السورية تحتفظ اليوم بنسبة سيولة مرتفعة لضمان تلبية السحوبات كافة.
وكشف أن المصرف المركزي أنشأ مديرية خاصة بحماية العملاء لتلقي الشكاوى ومعالجتها بسرعة، كما يعمل على إصدار قانون جديد لحماية المستهلك في الخدمات المالية.
وقال: "طوينا صفحة الماضي سياسيا واقتصاديا، طوينا صفحة الفساد، طوينا صفحة المخدرات، وخلصنا منها، وبدأنا اليوم مرحلة جديدة".
وأشار إلى أن استعادة الثقة لا تتحقق بالكلمات بل بالأفعال: "المواطن يجب أن يرى أن أمواله في المصرف تحت تصرفه متى أراد، وأن الودائع أمانة لا تمسّ".
الامتثال الدولي
واعترف الحصرية بأن ملف الامتثال الدولي من أكثر الملفات حساسية بعد سنوات العزلة المصرفية، مشيرا إلى إعادة هيكلة هيئة مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب التي يرأسها بنفسه، والتي تضم وزارات الداخلية والمالية والعدل.
وأكد أن الهيئة تعقد اجتماعات دورية وتعمل على تحديث القوانين لتتوافق مع المعايير الدولية، ما سيسمح بإعادة بناء العلاقات المصرفية الخارجية تدريجيا.
وأضاف أن المصرف المركزي بات يعطي وزنا خاصا للمصارف التي تمتلك علاقات مراسلين دولية قوية عند الترخيص، معتبراً أن "الاندماج في النظام المالي العالمي لم يعد خياراً، بل ضرورة".
استراتيجية 30 بحلول 2030
وكشف الحصرية أن المصرف بدأ منذ صدور قانون البنوك الاستثمارية بتلقي طلبات شبه يومية من مستثمرين وجهات مصرفية داخلية وخارجية، وأوضح أن الاقتصاد السوري بحاجة إلى تمويل المشاريع الكبرى، مشيرا إلى مشاريع نقل وطاقة واتصالات وصناعة تتطلب أدوات سوقية كالسندات والتوريق.
وأكد أن المصرف المركزي يعمل على إنشاء وكالة تصنيف وطنية لتقييم المشاريع الصغيرة والمتوسطة بهدف تسهيل التمويل وتقليل كلفته، وأضاف: "نحن بحاجة إلى شركاء استراتيجيين ذوي سجل مصرفي قوي، ونتوقع أن يكون للخليج وأوروبا دور أساسي في هذه المرحلة".
وكشف عن استراتيجية جديدة تحت عنوان "30 بحلول 2030"، تهدف إلى رفع عدد المصارف العاملة في البلاد إلى ثلاثين مصرفا بحلول عام 2030، بمزيج من البنوك المحلية والشركاء الخارجيين لتعزيز التنافسية وتنشيط التجارة الخارجية.
تحويل سوريا إلى مركز إقليمي لتجارة وصناعة الذهب وتوفير ما بين 30 و40 ألف فرصة عمل في هذا القطاع
الذهب
وفيما يتعلق بالذهب، رفض الحصرية تأكيد الأرقام التي تتحدث عن احتياطي يبلغ نحو 26 طنا، لكنه أوضح أن الذهب لم يُمسّ منذ تأسيس المصرف المركزي، مضيفا أن هذا الاحتياطي للأجيال القادمة، ونحن نعمل على زيادته لا على استخدامه كضمان.
وانتقد القانون السابق لسوق الذهب (2023) واعتبره "اشتراكيا ومتخلفا"، معلنا رؤية جديدة لتحرير الاستيراد والتصدير وترخيص مصافي الذهب بمعايير عالمية، وتنظيم القطاع بما يحمي المستهلك ويخلق فرص عمل جديدة. وقال إن الهدف "تحويل سوريا إلى مركز إقليمي لتجارة وصناعة الذهب، وتوفير ما بين 30 و40 ألف فرصة عمل في هذا القطاع الحيوي".
السياسة اليوم هي عدم اللجوء إلى الاقتراض من الأسواق المالية أو المؤسسات الدولية
الأموال العائدة
وحول الأموال السورية التي بدأت تعود إلى الداخل بعد رفع بعض العقوبات، أوضح الحصرية أن هذه الأموال تدخل الدورة الاقتصادية عبر تمويل الاستيراد والتجارة، ما يعيد الحركة إلى السوق ويزيد الطلب على الليرة.
كما أوضح الحصرية أن التعاون مع صندوق النقد الدولي ومجموعة البنك الدولي هو فني واستشاري فقط، مؤكدا أن الحكومة السورية لا تنوي الاقتراض من هذه المؤسسات بالطريقة التقليدية.
وقال إن "السياسة اليوم هي عدم اللجوء إلى الاقتراض من الأسواق المالية أو المؤسسات الدولية، والتركيز بدلا من ذلك على الاستثمار الداخلي والتمويل التنموي الموجّه".
وأضاف أن اللجوء إلى القروض قد يكون فقط في حالات محددة، كمشاريع البنى التحتية أو الكهرباء أو المياه أو الزراعة، وبشروط ميسّرة عبر صناديق تنموية عربية أو دولية مثل بنك الاستثمار الأوروبي أو الصناديق العربية.
وشدّد على أن هذا النوع من التمويل يُعدّ طبيعيا ما دام مرتبطا بمشاريع إنتاجية ذات جدوى، ولا يترافق مع شروط سيادية أو اقتصادية تقيّد القرار الوطني.
وكشف أنه لا يوجد حالياً أي قروض أو تمويلات قيد التفاوض أو التنفيذ، باستثناء منحة قيمتها 147 مليون دولار مخصّصة لقطاع الطاقة من مجموعة البنك الدولي، يبدأ تنفيذها عام 2026.
التحول الرقمي
وكشف الحصرية أن المصرف بدأ العمل على استراتيجية وطنية متكاملة لأنظمة المدفوعات، تهدف إلى تحديث البنية التحتية الرقمية وربط سوريا مباشرة بشبكات الدفع العالمية.
وقال: "وقّعنا اتفاق تعاون مع ماستركارد، وهناك أيضا تعاون قائم مع فيزا، لأننا نريد أن نذهب مباشرة إلى المصدر حتى تكون لدينا استراتيجية وطنية واضحة تعطي البنك المركزي دوره، والقطاع المصرفي دوره، وفي النهاية هدفنا أن يحصل المواطن السوري على أحدث الخدمات المصرفية المتاحة في العالم".
وأوضح أن هذه الاستراتيجية تمثل الركيزة الثالثة في عمل المصرف إلى جانب السياسة النقدية والاستقرار المالي، وتشمل إنشاء "ساندبوكس تنظيمي" يسمح لشركات التكنولوجيا المالية باختبار ابتكاراتها ضمن بيئة آمنة وسريعة التطور، وتعيين نائب لحاكم المصرف مكلّف بملف الابتكار والفنتك لمتابعة التنفيذ.
كما أشار إلى وجود تعاون مباشر مع وزارة الاتصالات السورية لبناء بنية رقمية متكاملة، إلى جانب شراكات مع شركات سعودية وإماراتية رائدة في مجال التكنولوجيا المالية لتطوير أنظمة الدفع الوطنية.
وأوضح الحصرية أن التعاون مع دول الخليج في قطاع الفينتك يجري على مسارين متوازيين، الأول مع المصرف المركزي الإماراتي، حيث يجري التنسيق للحصول على دعم فني واستشاري في مجال تطوير الأنظمة المصرفية، وقال إن الإمارات، من خلال مصرفها المركزي، تساعدنا في موضوع تطوير القطاع المالي ورفع كفاءته، مشيراً إلى أن الاجتماعات بين الجانبين مستمرة وأن التعاون عملي ومهني، ويركّز على بناء القدرات ونقل الخبرات التنظيمية والتقنية.
أما المسار الثاني فهو مع شركات سعودية رائدة في مجال التكنولوجيا المالية والخدمات المصرفية، حيث يجري التعاون معها ضمن خطة التحول الرقمي التي يقودها المصرف المركزي السوري، خاصة فيما يتعلّق ببناء البنية التحتية لأنظمة الدفع وتوسيع نطاق خدمات الفنتك.
وأكد الحصرية أن هذه الشراكات التقنية تهدف إلى نقل أفضل الممارسات في الابتكار المالي من المنطقة إلى سوريا، وأن التعاون مع كلٍّ من السعودية والإمارات يشكّل ركيزة أساسية في إعادة بناء القطاع المالي السوري على أسس حديثة ومتوافقة مع المعايير العالمية.


