هاشتاغ - ترجمة
يشير المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) في تقرير حديث إلى أنّ الاستثمارات الخليجية وتخفيف العقوبات الغربية أعادا بعض الأمل بإمكانية انطلاقة جديدة للاقتصاد السوري، غير أنّ هشاشة الوضع الأمني، والانقسامات الاجتماعية، وغياب خطة وطنية شاملة للتعافي، ما زالت تشكّل "عوائق جوهرية" أمام عملية إعادة الإعمار.
ويرى المعهد أن "الانخراط الدولي المنظم" يمثل عاملاً حاسماً لضمان عودة مستدامة للتعافي الاقتصادي في سوريا.
تعهدات استثمارية كبيرة في مناخ هش
بين شهري تموز/يوليو وآب/أغسطس 2025، استضافت سوريا منتديين استثماريين بارزين استقطبا رجال أعمال وشركات من السعودية وقطر والإمارات، وبلغت قيمة التعهدات فيهما نحو 20 مليار دولار، تركزت في قطاعات النقل والترفيه والعقارات. وبالتوازي، وقّعت دمشق مذكرات تفاهم عدة مع مستثمرين أجانب في مجالات الطاقة والاتصالات والإعلام.
وفي الإطار نفسه، بدا أنّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي مستعدان لإعادة النظر في موقفيهما من دمشق، أملاً في بناء علاقة طبيعية أساسها التعاون الاقتصادي والتطبيع السياسي. ففي أيار/مايو 2025، أُعلن رفع جزئي للعقوبات شمل بعض المؤسسات والقطاعات، بما في ذلك البنك المركزي السوري، والسماح بإعادة دمشق إلى نظام "سويفت" المالي العالمي.
وترى القيادة الجديدة في دمشق أنّ هذه الخطوات تتجاوز البعد الاقتصادي، وتحمل في جوهرها "رسالة سياسية" مفادها أن "سوريا تستحق بداية جديدة". لكن الأحداث اللاحقة كشفت هشاشة هذا الزخم، في ظل اقتصاد منهار، ومجتمع منقسم، وسياسة شديدة الاستقطاب.
تحديات الأمن والانقسام والعدالة
ما زالت البلاد تواجه ظروفاً أمنية متوترة، أكّدتها الأحداث الدموية التي شهدتها اللاذقية وطرطوس والسويداء بين آذار/مارس وتموز/يوليو 2025. وقد ذكّرت تلك الوقائع بثمن تجاهل "العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية وبناء الدولة الشامل".
ويحذّر التقرير من أنّ "عودة سياسات العزلة الغربية" قد تكون مضرة؛ إذ إنها تضعف قدرة الدولة على توفير الخدمات والأمن، وهذا يجعلها أكثر عرضة للاضطرابات الداخلية والهجرة والاقتصاد غير المشروع؛ لذلك، فإنّ معالجة التحديات الأمنية والاجتماعية شرط أساسي لأي مسار اقتصادي فعّال.
إرادة السوريين في العودة
على الرغم من الصعوبات، يُظهر السوريون عزيمة ملحوظة في العودة إلى وطنهم وإعادة بنائه. فمنذ كانون الأول/ديسمبر 2024، عاد ما يُقدَّر بنحو 500 إلى 780 ألف لاجئ (أي ما بين 8% و13% من اللاجئين المسجَّلين)، في حين عاد 1.6 مليون نازح داخلي إلى مدنهم وقراهم (نحو 21% من إجمالي النازحين).
وعلى الرغم من أن هذه الأرقام تبدو محدودة، فإنها تكتسب أهمية في ضوء أنّ ثلث المساكن في سوريا مدمَّر أو متضرر بشدة، وأكثر من 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، بينما لم تتوقف الاشتباكات في بعض المناطق. ويستنتج التقرير أنّ هذه الأرقام تعبّر بوضوح عن رغبة السوريين في العودة وإعادة البناء، لكن هذه العودة لن تكون مستدامة ما لم تُطلق خطة وطنية للتعافي ترتكز على الخدمات والسكن والأمن، بدعم من تحالف دولي فعّال، وخاصة الاتحاد الأوروبي.
غياب خطة وطنية واضحة
بعد مرور تسعة أشهر من تولي الحكومة الجديدة السلطة، لم تُعلن بعد خطة وطنية للتعافي وإعادة الإعمار. ويُرجع التقرير هذا الغموض إلى "ضعف القدرات المؤسسية، والتردد الدولي، وانعدام التمويل الخارجي الجاد".
كما ساهم "إرهاق المانحين" بعد أربعة عشر عاماً من الصراع، وتحويل المساعدات إلى مناطق أزمات أخرى، في إبطاء الالتزامات المالية، في انتظار "تقدم ملموس في الشمول السياسي والمساءلة والانتقال الديمقراطي".
استراتيجية حكومية غير كافية:
1. جذب الاستثمارات الخارجية:
تسعى الحكومة إلى جذب رؤوس الأموال من الدول الصديقة، ولا سيما الخليج وتركيا. غير أنّ فعالية هذا المسار موضع شك؛ إذ تركز المشروعات الكبرى على "البنى الرمزية" (مجمّعات تجارية، مطارات، أبراج) أكثر من تلبية "الاحتياجات الاجتماعية الملحّة" مثل السكن والتعليم والأمن الغذائي.
كما أن الاعتماد المفرط على هذه المشروعات يظهر "رهاناً على الصورة السياسية" أكثر من مقاربة اقتصادية متوازنة.
وقد واجهت بعض المشروعات اعتراضات محلية، مثل احتجاجات حي القرابيص في حمص على مشروع "شارع النصر"، الذي أُوقف لاحقاً، وهذا كشف عن ثغرات في التخطيط والتشاور المجتمعي.
2. تعبئة رأس المال المحلي واستعادة الأموال:
تحاول الحكومة تعبئة الموارد الداخلية بإطار استثماري جديد يمنح حوافز ضريبية، ويسهّل الوصول إلى البنية التحتية، إضافة إلى ملاحقة رجال الأعمال المرتبطين بالنظام السابق لاسترداد أموالهم. كما أعادت إحياء مشروعات كبرى من عهد الأسد مثل مدينة ماروتا بدمشق ومشروع الحيدرية في حلب، مع وعود جديدة تتعلق بحماية الملكية وتقديم سكن بديل عادل.
3. تمكين المجتمع المدني والمنظمات المحلية:
يمنح هذا المسار مساحة كبرى للمنظمات المحلية والدولية لترميم "البنية التحتية الخفيفة" وتحسين الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والمياه. ومن الأمثلة البارزة "حملة "أربعاء حمص" التي جمعت نحو 14 مليون دولار لدعم قطاعات حيوية، تلتها مبادرات مشابهة في حلب ودرعا وحماة.
لكن التقرير يرى أن هذه المبادرات، وعلى الرغم من أهميتها، "لا تكفي لتلبية حجم الحاجة الوطنية"، وقد تؤدي إلى "عدم توازن جغرافي أو قطاعي" ما لم تُدرج ضمن إطار وطني موحد لتحديد الأولويات وتنسيق الجهود.
دور الاتحاد الأوروبي في دعم التعافي
في مؤتمر بروكسل التاسع “الوقوف مع سوريا” (آذار/مارس 2025) ، تعهّد الاتحاد الأوروبي بتقديم 2.5 مليار يورو لدعم سوريا واللاجئين في الدول المجاورة، وهي خطوة مهمة لسد الفجوات الإنسانية وتعزيز التعافي المبكر.
لكن التقرير يؤكد أن المطلوب هو "تحويل هذا الدعم الإنساني إلى شراكة تنموية مستدامة"، بما يغيّر دور سوريا من متلقٍ للمساعدات إلى "شريك اقتصادي فعّال".
ويرى أن أدوات مثل "العقوبات والعزلة السياسية" أثبتت محدودية فعاليتها؛ بل وأحياناً أثّرت سلباً في مسار التحول الديمقراطي. ومع وجود "قيادة سورية أكثر تعاوناً"، يملك الاتحاد الأوروبي فرصة لدفع التغيير بـ"حوافز مشروطة ومدروسة" تشمل القروض والاستثمارات والمساعدات التنموية، مقابل التزام دمشق إصلاحات سياسية وإدارية
شفافة.
خطوط استراتيجية لدعم التعافي الوطني
يخلص التقرير إلى مجموعة من "التوصيات العملية" لضمان تعافٍ اقتصادي شامل ومستدام:
1. تشكيل تحالف دولي يضم الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة ودول الجوار والشركاء الخليجيين، لتنسيق جهود الإعمار ووضع إطار وطني للتعافي يضمن الشفافية والمشاركة المجتمعية.
2. تقليل المخاطر على الاستثمارات الأجنبية بتفعيل آليات تخفيف العقوبات، وتوضيح قنوات الدفع، وتقديم ضمانات سياسية، مع التركيز على القطاعات الاجتماعية ذات الأولوية (الإسكان، الصحة، التعليم، المياه، الصناعة المحلية).
3. تمكين السوريين في الخارج بتسهيل زيارات مؤقتة للاجئين والمغتربين، وهذا يتيح لهم تقييم إمكانية العودة وإصلاح منازلهم وبدء مشروعات صغيرة.
4. تعزيز قدرات المجتمع المدني السوري ببرامج نقل الخبرات والتكنولوجيا، وإعادة بناء السجلات المدنية والعقارية، وتحسين أدوات التخطيط المحلي.
يخلص تقرير المعهد الإيطالي إلى أنّ "إعادة إعمار سوريا وفق أسس عادلة ومستدامة" لا تخدم السوريين وحدهم؛ بل تصب في المصلحة الإقليمية والدولية على السواء. وينبغي أن تُبنى عملية الإعمار على "أولويات السوريين وحقوقهم وهويتهم الوطنية"، مع التركيز على المناطق الأكثر تضرراً، والقطاعات التي تمكّن عودة اللاجئين بكرامة وأمان، مثل "الزراعة والصناعة والسكن والتعليم والرعاية الصحية"، وتعزيز التكامل الاقتصادي مع دول الجوار، بما يرسّخ مسار تعافٍ وطني أكثر صلابة واستقراراً.


