هاشتاغ - متابعة
انطلقت في العاصمة الفرنسية باريس، الثلاثاء، محاكمة شركة "لافارج" للأسمنت المرتقبة، و8 من كبار مسؤوليها التنفيذيين السابقين، على خلفية اتهامات تتعلق بتمويل الإرهاب بدعم تنظيمات مسلّحة في سوريا، من بينها تنظيم "داعش"، في سنوات الحرب الأولى.
وتأتي هذه القضية، التي تعد سابقة قضائية في أوروبا، لتفتح مجدداً باب المساءلة عن دور الشركات الغربية في مناطق النزاع، وكيفية تحويل الحرب إلى ملعب اقتصادي وسياسي يتقاطع فيه رأس المال مع المجموعات المسلحة.
وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية (AFP)، ستستمر جلسات المحاكمة حتى 16 كانون الأول/ديسمبر، للنظر في الاتهامات الموجّهة إلى الشركة عبر فرعها "لافارج أسمنت سوريا" بتقديم أكثر من 5 ملايين يورو لجماعات مصنّفة إرهابية، إضافة إلى دفع مبالغ لوسطاء محليين لضمان استمرار تشغيل مصنعها في منطقة "الجلبية" جنوبي كوباني، شمال شرقي سوريا، بين عامي 2012 و2014.
ولا تُحاكم هذه القضية شركة تجارية فحسب؛ بل تُعيد طرح سؤال أكبر: كيف تحوّلت سوريا في سنوات الحرب الأولى إلى بيئة جذب لشركات متعددة الجنسيات بحثاً عن النفوذ الاقتصادي، حتى ولو على حساب أخطر الملفات الأخلاقية والقانونية؟
من التحقيق الأوّلي إلى فتح باب "جرائم بحق الإنسانية"
بدأت فصول القضية في حزيران/يونيو 2017، حين فُتح تحقيق قضائي في فرنسا بحق الشركة ومسؤولين تنفيذيين فيها، للاشتباه في "تمويل الإرهاب". وفي 2018، وجّه القضاء الفرنسي للشركة تهمة "التواطؤ في جرائم بحق الإنسانية"، بسبب شبهات بدعمها مجموعات ارتكبت انتهاكات واسعة، وعلى رأسها تنظيم "داعش". لكن هذه التهمة سقطت في تشرين الأول/أكتوبر 2019.
لم ينتهِ الأمر عند ذلك الحد. منظمات حقوقية، أبرزها "شيربا" (Sherpa) و"المركز الأوروبي للحقوق الدستورية وحقوق الإنسان" (ECCHR)، استأنفت القرار أمام محكمة النقض الفرنسية، أعلى سلطة قضائية في البلاد. وفي أيلول/سبتمبر 2021، ألغت المحكمة قرار إسقاط التهمة، وفتحت الطريق مجدداً أمام توجيه تهمة المشاركة في جرائم بحق الإنسانية.
وفي كانون الثاني/يناير 2024، أكدت محكمة النقض موقفها، رافضة إسقاط التهمة، وهذا أعاد زخم القضية لقانوني والسياسي. وبعد أشهر، في تشرين الأول/أكتوبر 2024، أعلن كل من Sherpa وECCHR أن 3 قضاة تحقيق قرروا إحالة "لافارج" و4 مسؤولين سابقين للمحاكمة بتهم:
1. تمويل الإرهاب.
2. انتهاك العقوبات الأوروبية التي تحظر أي تعامل مالي أو تجاري مع التنظيمات الإرهابية في سوريا.
وقد مثّل هذا التطوّر نقطة تحوّل؛ لأن إحالة شركة كبرى بهذا الحجم، كانت جزءاً من الاقتصاد الفرنسي عقوداً عدة، إلى المحاكمة بتهم على صلة بجرائم بحق الإنسانية، يعدّ سابقة في الاتحاد الأوروبي.
إحراج فرنسي–أوروبي أم محاولة ترميم صورة العدالة؟
تأتي المحاكمة في سياق سياسي يتجاوز حدود الملف السوري. ففرنسا، التي طالما قدّمت نفسها دولة تحارب الإرهاب وتدعم الانتقال السياسي في سوريا، تجد نفسها اليوم في موقف حرج؛ إذ تكشف القضية جانباً مظلماً يتعلق بعلاقة شركات فرنسية مع جهات مسلّحة متطرفة، في توقيت كان فيه تنظيم "داعش" يرتكب فظائع واسعة موثقة من الأمم المتحدة.
من جهة أخرى، يرى باحثون في القانون الدولي، استناداً إلى تحليلات نشرها موقع "Le Monde" ووسائل إعلام فرنسية قانونية متخصصة، أنّ هذا الملف يمثّل اختباراً حقيقياً لقدرة القضاء الأوروبي على محاسبة الشركات على أفعال ارتُكبت خارج حدوده، خصوصًا حين تلامس خطًا أحمر مثل "جرائم ضد الإنسانية".
ويقرأ آخرون القضية من زاوية سياسية أعمق: إعادة ترميم صورة فرنسا في ملف العدالة الدولية، خصوصاً بعد الانتقادات التي طالت سياسات الغرب في الشرق الأوسط، ودور بعض القوى الاقتصادية في تغذية الصراعات بدلاً من الحد منها. ففتح هذا الملف لم يكن خياراً سهلاً، كونه يحمل تبعات سياسية ودبلوماسية وقانونية تمتد إلى مستويات حساسة، بينها سمعة الشركات الأوروبية وقدرتها على العمل في دول غير مستقرة.
صعوبة التذرع بـ"ظروف الحرب"
أحد خطوط الدفاع التقليدية للشركات العاملة في مناطق نزاع هو الادعاء بأن المدفوعات تُفرض عليها كـ"إتاوات" لضمان أمن موظفيها واستمرار أعمالها. لكن منظمات حقوقية وقانونيين فرنسيين يؤكدون أن القانون الأوروبي واضح في هذا الجانب: "لا يمكن لأي شركة تبرير تقديم أموال لتنظيمات مصنّفة إرهابية، مهما كانت الظروف".
القانون الفرنسي والأوروبي يعد أن أي تعامل مالي مع تنظيمات تحظرها الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي يُعدّ مساهمة مباشرة في تمويل الإرهاب. كما أن مفهوم "المساهمة في جرائم بحق الإنسانية" في القانون الدولي لا يشترط النية المباشرة؛ بل يكفي العلم باحتمال أن تساهم الأموال في تمكين جهة ترتكب تلك الجرائم.
وفي هذا السياق، يعد قرار محكمة النقض الفرنسية في 2021 سابقة قانونية مهمة؛ لأنها أقرت أن شركة يمكن أن تُحاكم ليس فقط لتمويل الإرهاب؛ بل أيضاً "للمشاركة" في جرائم بحق الإنسانية، إذا ثبت أنها ساعدت الجهة التي ارتكبت الجرائم، حتى مساعدة غير مباشرة.
سوريا.. مسرح الصفقات "القذرة" بين رأس المال والسلاح
تلقي قضية "لافارج"، الضوء على واقع الحرب السورية بوصفها أرضاً جاذبة لصفقات رمادية، جمعت بين شركات عالمية، ومافيات الحرب، وشبكات تهريب ونفوذ محلي. فبين 2012 و2014 كانت المنطقة التي يوجد فيها مصنع "لافارج" تشهد انتقال السيطرة بين جماعات مسلّحة مختلفة، بينما تحاول الشركة الحفاظ على استثماراتها بأي وسيلة.
وتكشف هذه الواقعية نمطاً أوسع، فاقتصاد الحرب الذي نشأ في سوريا لم يكن محلياً بحتاً؛ بل تشابكت فيه مصالح دولية، شركات كبرى، وحكومات تغض الطرف أحياناً مقابل مصالح اقتصادية أو سياسية.
ماذا تعني هذه المحاكمة للسوريين؟
تتجاوز القضية إطارها القانوني داخل فرنسا؛ إذ تبرز أهميتها للسوريين بوصفها من بين أولى القضايا الغربية التي تتناول جانباً من الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بفترة الحرب في سوريا أمام القضاء الأوروبي.
وتتابع منظمات حقوقية سورية ودولية تطورات الملف بوصفه اختبار مدى إمكانية تطبيق مبادئ المساءلة والعدالة في حالات تتداخل فيها المصالح الاقتصادية مع الصراعات المسلحة. وقد تساهم نتائج المحاكمة، وفق قانونيين ومهتمين بالعدالة الانتقالية، في تحديد معايير مستقبلية لكيفية تعامل الشركات الدولية مع البيئات الهشّة في النزاعات.
وتشكل محاكمة "لافارج" إحدى أبرز القضايا التي تتناول دور شركات دولية عاملة في مناطق نزاع خارج أوروبا ضمن إطار القانون الفرنسي والأوروبي. وتسلط الإجراءات القضائية الضوء على الجوانب القانونية المرتبطة بتمويل الإرهاب والتعامل الاقتصادي في بيئات تخضع لسيطرة جماعات مسلحة.
كما تمثل جلسات المحاكمة فرصة لمتابعة كيفية تعامل القضاء الأوروبي مع قضايا عابرة للحدود تتقاطع فيها المسؤوليات التجارية والقانونية والأمنية، في ظل اهتمام حقوقي وإعلامي متواصل بنتائجها المحتملة.


