رأي - تيسير حسون
يهدف هذا المقال إلى تحليل ظاهرة الولاء الشخصي للقادة في سوريا، بوصفها نتاجاً مركباً لعوامل نفسية واجتماعية وتاريخية، ولتحولات عميقة في بنية الوعي الجمعي بعد عقود من الحكم السلطوي.
ينطلق البحث من مقولة معيارية مفادها أن “الولاء الأعلى ينبغي أن يكون للمبادئ لا للأشخاص”، ويقارن بين الولاء القيمي (principled loyalty) والولاء الشخصي (personal loyalty) عبر أطر التحليل النفسي والاجتماعي والسياسي. كما يبيّن كيف تحوّل الولاء في المجتمع السوري من فعل وعي ومسؤولية إلى آلية دفاع جماعية ضد الخوف واللايقين، وكيف يمكن استعادة المعنى الأخلاقي والسياسي للالتزام في مرحلة إعادة بناء الثقة العامة.
الولاء كأداة ضبط اجتماعي
منذ منتصف القرن العشرين، تشكّل مفهوم الولاء في الحياة السياسية السورية ضمن منظومة سلطوية مغلقة جعلت من "الانتماء" مرادفاً للطاعة. تحوّل الولاء من فضيلة مدنية إلى معيار للبقاء والنجاة. في علم الاجتماع السياسي، يُعد الولاء أحد أعمدة الشرعية التقليدية، لكنه عندما يُفصل عن المبادئ ويتجسّد في شخص القائد، يتحوّل إلى أداة قهر رمزية تُعيد إنتاج الخضوع وتُعطّل الحس النقدي.
في هذا السياق، لم يكن السؤال “لمن نُوالي؟” سؤالاً أخلاقياً بل سؤالاً أمنياً، إذ ارتبط الولاء بالحياة نفسها، لا بالقيم.
الولاء الأعمى ليس ضمانة للحياة، بل هو رهان على حسن نية شخص واحد. وهو رهان خاسر في سياقنا. الولاء لضميرك هو رهانك على نفسك، على عقلك، وعلى المبادئ التي أثبت التاريخ أنها أكثر بقاءً من أي شخص. إنه تأمين على حياتك وكرامتك على المدى الطويل."
أنت لا تطلب من الناس أن يختاروا بين الأخلاق والبقاء، بل تكشف لهم أن الأخلاق (الولاء للضمير والمبادئ) في هذا السياق هي أعلى درجات الحكمة والرغبة في البقاء. إنها استراتيجية البقاء للعارف، وليس للخائف.
في علم النفس الاجتماعي للطاعة
تُظهر دراسات ستانلي ميلغرام حول الطاعة للسلطة (1963) أن الأفراد مستعدون لتنفيذ أوامر تتناقض مع ضميرهم الأخلاقي عندما تُبرَّر باسم سلطة عليا. ما كشفه ميلغرام علمياً هو ما عاشه السوريون اجتماعياً لعقود:
تآكل الحدود بين القيم الفردية والأوامر السلطوية، وتحول الطاعة إلى جزء من الهوية.
في ظل الخوف الجمعي والعقاب الجماعي، يصبح القائد رمز الأمان النفسي، لا السياسي.
هذا النمط من التعلّق يُقارب ما يسميه جون باولبي “التعلق القسري” (compulsive attachment): علاقة غير متكافئة، تُبنى على الخوف لا على الثقة.
وهنا يكمن لبّ المأزق السوري: المواطن الذي طُبع على الخضوع يصعب عليه أن يتخيّل ذاته حُرّاً، لأن الحرية نفسها تثير قلق الانفصال.
الولاء كعقد اجتماعي زائف
يقدّم جان جاك روسو في “العقد الاجتماعي” تصوّراً للشرعية قائم على الإرادة العامة. غير أن الأنظمة السلطوية، مثل الحالة السورية، تقلب المعادلة:
فبدلاً من أن تُستمد السلطة من الإرادة العامة، تُستمد الإرادة العامة من السلطة.
يُعاد تعريف الوطنية بوصفها ولاءً لشخص الحاكم أو لقائد عسكري أو ديني، بينما تُختزل المبادئ العامة في إرادته الخاصة.
بهذا، يتحوّل العقد الاجتماعي إلى “عقد إذعان جماعي”، تُلغى فيه الذات المواطنية لصالح كيان أبوي يطالب بالحب غير المشروط مقابل الحماية.
من الولاء إلى التواطؤ
من منظور علم النفس الجمعي (إريك فروم، هانا أرندت)، الطاعة غير المشروطة ليست علامة على الإيمان بالقائد، بل على الانسحاب من المسؤولية.
تسمي أرندت هذا الانسحاب “تفاهة الشر”: حين يفعل الأفراد الشرّ لا بدافع الكراهية، بل لأنهم كفّوا عن التفكير.
وهكذا يصبح الولاء الأعمى أحد أشكال التواطؤ البنيوي، لأنه يُعفي الفرد من مسؤوليته الأخلاقية، ويُبرّر القمع باسم “المصلحة العليا”.
في سوريا، أدّى هذا النمط إلى تآكل الضمير الجمعي، إذ جرى تمجيد الطاعة بوصفها فضيلة وطنية، وتجريم النقد بوصفه خيانة.
الولاء المبدئي كإطار للشفاء الجمعي
استعادة الحياة السياسية في سوريا لا يمكن أن تتم عبر تبديل القادة بل عبر إعادة تعريف الولاء نفسه.
الولاء المبدئي يعني أن يكون الالتزام بالعدالة والكرامة والحرية سابقاً على أي شخص أو حزب أو طائفة.
من منظور الفلسفة الأخلاقية (كانط)، لا يُقاس الفعل الأخلاقي بنتائجه بل بمبدئه.
ومن منظور علم النفس المجتمعي، يشكّل الانتقال من الولاء الشخصي إلى الولاء المبدئي خطوة علاجية جماعية نحو ما يسميه ستيفن بورجس “الأمان الاجتماعي” (social safety)، حيث تُستعاد الثقة لا بالسلطة بل بالعلاقة الإنسان
ية نفسها.
نحو ثقافة الولاء للمبادئ
المجتمع الذي يتعلم أن يسحب دعمه من القائد حين يتناقض مع القيم، يبدأ فعلياً ببناء السياسة.
في المقابل، المجتمع الذي يقدّس الأشخاص يفقد قدرته على التمييز الأخلاقي.
الولاء للمبادئ لا يعني الانقسام بل النضج، لأنّ المبدأ هو ما يوحّد المختلفين ضمن عقد أخلاقي جامع.
وفي الحالة السورية، قد يكون هذا التحوّل هو الشرط الأول لقيام دولة مدنية تستمد مشروعيتها من القيم لا من الأشخاص.
ختاما.. ليس الخطر في وجود القادة، بل في غياب الحدود الأخلاقية التي تضبط العلاقة بهم.
المجتمعات التي لم تتعلم بعد أن تقول "لا" حين يَضلّ القائد، لم تتعلم بعد أن تكون حرّة.
وفي سوريا، يبدأ الإصلاح الحقيقي عندما يصبح السؤال المركزي:
ليس من نحكم، بل كيف نُحكم، وبأي مبدأ؟


