هاشتاغ - أيهم أسد
تأخذ عملية إعادة إعمار ما تدمره الحروب تحديداً أبعاداً سياسية إلى جانب أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية، ومعنى ذلك أن عملية عادة الإعمار بعد الحروب تنتقل من مجال الاقتصاد المادي البحت المتمثل بتمويل تلك العملية عبر الاستثمارات المحلية أو الخارجية إلى المجال السياسي والمتمثل بتحركات شبكات المصالح السياسية المحلية والدولية المستفيدة من تلك العملية ضمن منظومة من الشروط الدولية والمحلية الخاصة.
يحدث ذلك الانتقال بالطبع بين الاقتصاد والسياسة دون الانفصال بينهما، لكن المقصود من ذلك الانتقال هو أن إعادة الإعمار تنشئ سوقها السياسي الخاص بها مثلما تنشئ سوقها الاقتصادي، فكما أن للاقتصاد موارد واستثمار وعرض وطب وتوازن وتكاليف وأرباح، كذلك السياسة أيضاً موارد واستثمار وعرض وطلب وتوازن وتكاليف وأرباح لكنها أكثر خصوصية من الاقتصاد ولربما يبني سوق الاقتصاد المتانة في الأصول المادية في الوقت الذي تؤسس فيه سوق السياسة للهشاشة الاجتماعية.
شكل سوق إعادة الإعمار في الاقتصاد مادي بحت، ويمكن قياسه مباشرة بالمنافع المالية المباشرة من عملية إعادة الإعمار، إلا أن شكل سوق إعادة الإعمار في السياسة أكثر غموضاً، وأكثر خصوصية، وأوسع تأثيراً.
فقد يأخذ شكل سوق السياسة المرافق لعمليات إعادة الإعمار مكاسب أو تنازلات سياسية غير معلنة، أو ربما تكون معلنة ومبررة من قبل السلطة الراغبة بإعادة الإعمار، كما أنه قد يأخذ شكل شراء مواقف معينة تجاه قضايا مختلفة داخلية وخارجية، وربما يأخذ شكل قبول بأمر واقع تجاه مسألة وطنية أو حدود جغرافية أو جود عسكري، أو التوقف عن دعم أحزاب معينة أو دعم أحزاب معينة.
كما يمكن لذلك السوق أن يأخذ في أحد أشكاله دعم استمرار نظام حكم معين لخدمة مصالح خارجية محددة في منطقة جغرافية ما، وبالتالي فإن نتائج التوازن في سوق السياسة لا تتحدد مباشرة كما في الاقتصاد، بل تتحدد على مدى زمني أطول ولا يمكن اكتشاف منافعها والمستفيدين منها وصناع صفقاتها الحقيقيين إلا بعد حين.
تفتح عملية إعادة الإعمار بعد الحروب، وبفعل شراهتها الاقتصادية للمال، سوق السياسة على أوسع أبوابه، وتفتح سوق المفاوضات والمساومات والتنازلات، وكلما اعتمدت الدول ذات الأصول المادية المدمرة على التمويل الخارجي وشروطه في عملية إعادة الإعمار كلما كان استثمار الخارج في السياسة أكبر، وكلما كان عدد المتنافسين أكثر، فالخارج لن تكون مصالحه في الداخل اقتصادية فقط، بل سياسية أيضاً، وربما تشكل إعادة الإعمار فرصة حاسمة لتحقيق تلك المكاسب.
يفرز سوق السياسة المرافق لعمليات إعادة الإعمار بحثاً دائماً عن توازن سياسي جديد، فالداخل يطلب ما يحتاجه والخارج يعرض ما يريده، وبين فائض قوة الخارج سياسياً واقتصادياً، وقصور قوة الداخل اقتصادياً وسياسياً تتحدد نقاط التوازن في سوق السياسة، إنها ببساطة منطق "الطلب والعرض" المأخوذة من الاقتصاد البحت والمطبق في السياسة.


