رأي - مازن بلال
انتهى زمن "قيصر" الذي رسم ملامح سوريا سياسياً واقتصادياً، وهذه النهاية كانت صورة لإعادة تشكيل المشهد السوري على خلفية إقليمية لن تسمح سيادياً وسم سياسة دمشق لعقود، وما حدث لا يشكل انتصاراً سياسياً إنما إعادة ترتيب لموقع سوريا السياسي، وحصاراً للقرار السيادي.
على المستوى الاقتصادي هناك أسئلة لا تزال مفتوحة، فـ"قيصر" لم يكن عقوبات فقط، إنما قطيعة خلقت سوقاً سورية بمواصفات جديدة، ووضعها اليوم على قوانين السوق يحتاج إلى قدرات تستند إلى سياسات عامة جديدة، فهناك "طوارئ اقتصادية" تشبه إلى حد كبير عمليات الانقلاب السياسي التي تتطلب إدارة مختلفة تماماً عن السابق.
بعد إلغاء قانون "قيصر" بقيت منظومة العقوبات الأمريكية وانتقلت إلى صيغة جديدة تحمل أبعاد السيطرة "الخفية"؛ إذ إنها تدار بوساطة المؤسسات الدولية والعربية، وبخطاب سياسي مرتبط بـ"إعادة الإعمار"، وهذا المسار الذي لم تظهر ملامحه بعد تم وضعه لإعادة تشكيل الخارطة الاقتصادية على قاعدة تحمل معها مسألتين:
الأولى مرتبطة بهيكلة الاقتصاد الذي بدأ عملياً وظهرت نتائجه ببعض مشروعات القوانين، مثل قانون الخدمة المدنية الذي أنهى دولة "العدالة الاجتماعية" إلى شكل آخر من "النيوليبرالية".
المسألة الثانية هي التحكم السياسي بخارطة إعادة الإعمار، فإلغاء "قيصر" يرتبط عملياً بلوائح تنفيذية تجعل الانفتاح الاقتصادي مرهوناً بحركة سياسية خاصة.
حين أعلن البيت الأبيض في حزيران 2025 إنهاء برنامج العقوبات الشامل وإطلاق ما سُمّي آلية PAARSS (Promoting Accountability for Assad and Regional Stabilization) بوصفها إطاراً جديداً تتحول من سياسة الحصار الشامل إلى الرقابة الانتقائية، فلا تستهدف الدولة السورية ككل؛ بل الأفراد والكيانات التي تُعرقل المرحلة الانتقالية أو تهدد التوازنات الأمنية التي ترعاها الولايات المتحدة وحلفاؤها، وبهذه الصيغة، أصبحت PAARSS أداة "تحكم اقتصادي من بُعد"، تتيح لواشنطن ضبط التمويل العربي والغربي وإعادة الإعمار وفق معاييرها، وتحويل العقوبات من سلاح للردع إلى آلية وصاية مالية على الدولة السورية الجديدة.
الهدف الحقيقي إعادة هندسة بنية الاقتصاد السوري وفق معايير الرقابة الدولية، فالإلغاء لم يكن غاية سياسية؛ بل أداة لإعادة توزيع النفوذ داخل سوريا، فدمشق بعد "قيصر" لم تتحرر من القيود؛ لأنها غدت مركز إدارة مقيد بمعايير المانحين وبنود المراقبة، فانتهت العقوبات الشاملة، لكن مفهوم العقوبة سيبقى مستمراً، فانتهت مرحلة الحصار المعلن إلى ضبط المؤسسات، بالإشراف والمراقبة.
تخلّت واشنطن عن أدوات الردع المباشر لتحتفظ بالتحكم "غير المرئي" في القرار المالي والسياسي السوري، فتُفتح أبواب دمشق أمام الاستثمارات، لكن بشرط المراقَبة، ويُعاد بناء الدولة ضمن حدود تُرسم خارجها، فتدخل سوريا إلى "نموذج وصاية ناعمة"، فهو نهاية الحرب وبداية المراقبة، زمن لا تُقاس فيه السيادة بعدد الجنود على الأرض؛ بل بمدى حرية الاقتصاد في التنفّس خارج ملفات وزارة الخزانة الأمريكية، وهذا أمر صعب المنال.


