هاشتاغ
بحث

موسكو ودمشق الجديدة.. من التحالف إلى اختبار الندّية

23/10/2025

رأي-مالك-حافظ

شارك المقال

A
A

رأي - مالك الحافظ


منذ لحظة الإعلان عن سقوط النظام السابق، دخلت العلاقات السورية–الروسية مرحلة انتقالية لا تقل تعقيداً عن المشهد الداخلي السوري. فالدولة التي كانت تُدار من خلال تحالف عسكري وأمني شبه مطلق مع موسكو، تجد نفسها اليوم مضطرة إلى إعادة صياغة موقعها في السياسة الدولية، على قاعدة مختلفة عمّا فرضته ظروف الحرب وسياسات المحاور.


ما شهدته العلاقات السورية–الروسية في عهد النظام السابق يمكن تفسيره من خلال مفهوم "التبعية المتبادلة غير المتكافئة"، وهو مفهوم يستخدم في العلاقات الدولية لوصف علاقات تتحقق فيها مصلحة الطرفين، لكنها قائمة على اختلال حاد في موازين القوة والقرار. فبينما استفادت روسيا من تثبيت وجودها العسكري والسياسي في المتوسط، لم يكن للنظام السوري السابق القدرة على التأثير الفعلي في السياسات الروسية، ما جعل العلاقة تُدار من طرف واحد، رغم مظاهر الشراكة الشكلية.


زيارة الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى موسكو، تضعنا أمام سؤال جوهري فيما إذا كنا بصدد تصحيح لعلاقة استراتيجية مختلّة، أم إعادة إنتاج لنموذج تبعية يتبدّل شكله دون أن يتغير جوهره.


لا يمكن الحديث عن علاقة متوازنة مع موسكو دون التوقف عند طبيعة الشراكة التي سادت في العقد الماضي، حيث ارتبطت موسكو عضوياً بالنظام السابق، وكانت أحد أبرز الداعمين له عسكرياً وسياسياً منذ تدخلها العسكري المباشر في أواخر عام 2015، واستخدمت نفوذها في مجلس الأمن الدولي لحماية بنية النظام من أي مساءلة قانونية، ما منحها دوراً فوق وطني في تحديد المسارات العسكرية والسياسية داخل سوريا.


هذه العلاقة ولّدت شعوراً عميقاً بالانقسام داخل المجتمع السوري، حيث ارتبط اسم روسيا في المخيلة العامة بعمليات القصف الجوي، وبتثبيت نظام سياسي فشل في إدارة الدولة ودمّر نسيجها الاجتماعي. وبالتالي، فإن أي محاولة لبناء شراكة جديدة مع موسكو لا يمكن أن تنجح دون اعتراف صريح بفشل التجربة السابقة، وتحمّل المسؤوليات السياسية والأخلاقية الناتجة عنها.


يمكن إدراج الحالة السورية ضمن ما يسميه جويز جوزيف أو مايكل مان بـ "الدولة التابعة"، وهي بنية سياسية تعتمد على قوة خارجية لتثبيت سلطتها الداخلية، مقابل تنازلات استراتيجية تمسّ السيادة. ووفق هذا التوصيف، لم تكن العلاقة مع موسكو في العقد الماضي تحالفاً، لكنها كانت إحدى أدوات الاستمرار في الحكم.


في حين لا تسعى السلطة السورية الانتقالية الحالية إلى القطيعة مع موسكو، لكنها في الوقت نفسه لم تقدّم أي إشارات سياسية كافية تدل على وجود استراتيجية واضحة لإعادة تعريف العلاقة من موقع الندّية أو المصالح المتبادلة.


السؤال الذي يفرض نفسه يدور حول مدى امتلاك السلطة الانتقالية للأدوات والموارد والغطاء الشعبي من أجل أن تفاوض موسكو على أسس جديدة، أم أنها تتحرك وفق منطق "الضرورة السياسية" المؤقتة، بما لا يسمح بإعادة بناء العلاقة على قواعد أكثر اتزاناً وعدالة.


حتى اللحظة، لا يبدو أن الخطاب الرسمي للسلطة الانتقالية قد تجاوز مربع الرغبة في "تصفير المشاكل" مع اللاعبين الدوليين، بمن فيهم روسيا، دون الإقرار بأن ذلك يتطلب بناء موقف تفاوضي مستقل، يستند إلى رؤية وطنية للمصالح السورية وليس إلى توازنات إقليمية متقلبة.


من ناحية موسكو، فإن التغيير في دمشق لا يعني بالضرورة إعادة تعريف استراتيجيتها في سوريا، فروسيا تعاني من تراجع اقتصادي وضغوط سياسية خارجية نتيجة حربها في أوكرانيا، وتدرك أن احتفاظها بأي موطئ قدم في الشرق الأوسط يمر من البوابة السورية. لذلك، فإن تعاطيها مع السلطة الانتقالية الجديدة سيكون محكوماً بثلاثة اعتبارات، أولها يتمثل بحماية المصالح العسكرية والاقتصادية القائمة، خصوصاً في قاعدتي حميميم وطرطوس، وفي قطاعات الطاقة والبنية التحتية. وكذلك الحد من نفوذ الخصوم الإقليميين والدوليين، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة. وثالثاً تثبيت صورة روسيا كفاعل دولي قادر على التكيف مع المتغيرات دون أن يُقصى من المشهد.


غير أن هذه المصالح لا تعني بالضرورة استعداداً روسياً للدخول في مراجعة حقيقية، فحتى الآن لم يصدر عن موسكو ما يوحي بنيتها تقديم أي نوع من المراجعة لمواقفها السابقة، أو لسياساتها العسكرية السابقة، أو لعلاقتها بنخب النظام السابق التي لا تزال تتمتع بغطاء روسي فعلي داخل الأراضي الروسية وخارجها.


وبقدر ما تدفع الوقائع السلطة الجديدة إلى نسج علاقات دولية متوازنة، فإن الرهان على موسكو بوصفها شريكاً يمكن الوثوق به، يظل محاطاً بشكوك واقعية. فالتجربة السابقة أثبتت أن الكلفة السياسية للتحالف مع روسيا كانت عالية، سواء على مستوى العدالة الانتقالية، أو على صعيد الاستقلال الوطني، أو حتى في ما يتعلق بالمسار التفاوضي الدولي الذي أُفرغ من مضمونه بفعل الفيتو الروسي المتكرر.


المطلوب من دمشق الجديدة ليس القطيعة مع موسكو، ولكن وضع العلاقة في إطار واضح يحكمه مبدأ السيادة واحترام مصالح السوريين، وليس تكرار شروط اتفاقيات سابقة كرّست الانكشاف الوطني وأعاقت إعادة بناء الدولة.


هنا تشير لنا أدبيات بناء الدولة بعد النزاعات إلى أهمية استقلال القرار الخارجي في استعادة الثقة المحلية، وترسيخ شرعية المؤسسات الجديدة. فاستمرار الارتباط الوثيق بقوة أجنبية ذات سجلّ إشكالي في النزاع، لا يخدم مسار استعادة الدولة، إنما يُبقيها رهينة لصفقات خارجية لا تعبّر بالضرورة عن إرادة السوريين أو مصالحهم طويلة الأجل.


إن العلاقات مع روسيا يجب أن تُبنى اليوم على أساس المصالح الوطنية لا الضرورات الأمنية، ومثلما أن السلطة الانتقالية مطالبة بإثبات استقلاليتها عن المحاور الإقليمية، فهي مطالبة أيضاً بإثبات قدرتها على صياغة علاقة جديدة مع موسكو، لا تُعاد فيها إنتاج التبعية السياسية والعسكرية التي أفقدت الدولة السورية دورها ووظيفتها.


فليس من الواقعية السياسية أن نكرّر نمط العلاقة نفسها مع الفاعلين الدوليين أنفسهم ونتوقّع نتائج مختلفة. بل من الواقعية أن نمتلك شجاعة المراجعة، ونحافظ على مصالحنا دون أن نعيد فتح ملفات السيطرة الخارجية على حساب مشروع الدولة الوطنية.

التعليقات

الصنف

خطوط حمر

منشور حديثاً

الأكثر قراءة

تابعنا

مقالات ذات صلة

يستخدم موقع هاشتاغ والمنصات التابعة له ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على الموقع، وتقديم محتوى مخصص، وتحليل استخدام الموقع. هل توافق على استخدامنا للملفات لهذه الأغراض؟ يمكنك رفض ذلك، وسنستخدم فقط الملفات الضرورية لتشغيل الموقع.

هاشتاغ بيحكي عنك

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى في مناصرة المواطنين في المنطقة العربية وتمكينهم والدفاع عنهم ونقل أخبارهم وفق المواثيق الأممية والقواعد المهنية

أسّسها محمد محمود هرشو

محمد محمود هرشو

جميع الحقوق محفوظة - Hashtag هاشتاغ © 2015 - 2025