هاشتاغ - نضال الخضري
يبدو الماضي مشوشاً، فبالنسبة لأجيال الألفية الجديدة فإن تاريخ سوريا الحديث هو أوراق في الكتب المدرسية؛ تنتهي صلاحيتها مع انتهاء العام الدراسي، فعلى امتداد العقود السابقة كانت المعرفة تعيش استقراراً مقلقاً، لكنها لم تصل إلى عتبة "خيانة" الذاكرة.
الأجيال تعرفت على التاريخ الحديث ريما من العطل الرسمية، والمعنى الذي يقف وراءها بقي غائباً، وإلغاء بعض العطل أثار ضجة انتهت بفعل ما تعيشه سوريا من قلق، وإذا كانت المناهج المدرسية تسير على نفس الأسلوب في القفز فوق ما أنتج سوريا التي عرفتها الأجيال، فإن المسألة بات تشبه إعادة رسم "المواطنة" بذاتها التي باتت بلا ملامح واضحة.
أزمة التعليم لم تعد في طبيعة المؤسسات وما أصابها خلال سنوات الحرب، فتأهيل المدارس ربما يستغرق وقتاً، ويحرم عدداً جديداً من الأطفال من المعرفة، لكن الأخطر في الفكرة التي يحملها النظام المعرفي الرسمي عن "الذاكرة" بوصفها عبئاً يجب التحكم به، فالماضي لم يعد مجالاً لخلق عصبية لهوية محددة، بل أداة للضبط، تُعاد صياغته كلما تغيرت الحاجة السياسية أو الاجتماعية، فحين تُختزل مكونات التاريخ السوري إلى أسطر تجرف معها المعنى الذي يحمله "عيد الشهداء"، و"حرب تشرين" أو الصراع مع "إسرائيل"، فإننا لا نُدرّس التاريخ، بل ندرّب على النسيان.
تتهيأ المدارس اليوم لخلق أجيال بلا ملامح، وربما بلا مساحة خاصة تميزهم عن باقي أطفال العالم، فهم سيحملون معلومات بلا جذور معرفية ولا ذاكرة جمعية، فالتلميذ السوري لن يكون أسير الإيديولوجيا فقط بل سيخضع لتفكيك الذاكرة، ولتناقضات ربما تمسح زمناً كاملاً ليعيش وهم الإمبراطوريات الكبرى بدلاً من الحداثة، وهذا الخوف من الذاكرة يعني انهيار التوجه الأخلاقي والمعرفي.
خيانة الذاكرة تجري في صمت، وتُدار عبر إعادة تعريف "الوطنية"، ويعاد صياغة التاريخ بوصفه مادة قابلة للمحو أو التبديل، فالماضي يتحوّل إلى أداة سياسية، تفقد المدرسة وظيفتها الأساسية كجسر نحو الفهم والتأمل، وتتحول إلى مختبر لإنتاج وعي زائف، و"مواطنين جدد" بلا ماضٍ ولا أفق؛ إنهم أبناء مرحلة يمارسون النسيان كمهارة حياتية.
خيانة الذاكرة أصبحت جزءاً من بنية التعليم، وهذا المسار من التعليم يفرغ فكرة الوطن نفسها من مضمونها، فعدم احترام الذاكرة لا يُنتج مواطنين، بل يُنتج جيلاً من المراقَبين الذين يتقنون النسيان، وإذا لم تعد الذاكرة التاريخية لسورية بوصفها فعل مقاومة معرفية وأخلاقية، فإن الأجيال المقبلة ستكبر في ظل فراغ معنوي، حيث لا يبقى من التاريخ سوى سردية مجوفة.
معركة التعليم في سوريا ليست مع الأبجدية ولا مع الأبنية المهدّمة، بل مع المعنى ذاته، فإما أن يكون التعليم استعادة للذاكرة بوصفها فعل حياة، أو يتحوّل إلى أداة لمحوها، ليبقى السوري كما أراد له هذا النظام المعرفي شاهداً على وطن فقد ذاكرته، ومواطناً في جمهورية النسيان.


