رأي - مازن بلال
العودة التركية إلى سوريا تأخرت قليلا، فرغم الزيارات واللقاءات الدبلوماسية لكن السفير التركي إلى دمشق لم يصل إلا مع نهاية تشرين الأول، وتعيين "نوح يلماز" لم يكن اختيارا بسبب خلفيته الاستخباراتية أو تحصيله الأكاديمي، بل لأنه أشرف على الصراع السوري بشكل مباشر، فهو سفير تنفيذي يعرف تفاصيل تداخل "الميلشيات" مع "السلطة"، وطبيعة التفكير الذي يحكم النظام السوري الحالي.
المسألة اليوم بالنسبة لأنقرة تتجاوز الخطوط الواضحة للصراع في سوريا، فالتوازن الإقليمي يرسم في دمشق وليس في مكان آخر، ورغم أن الاهتمام الإعلامي الدولي ينصب على مناطق "الاقتتال" مثل غزة، لكن الترتيبات الشاملة ستنتهي في سوريا، وهذه الآلية هي التي حسمت حرب غزة عبر التبدل الجيوستراتيجي الذي ظهر في دمشق مع نهاية 2024.
أنقرة كانت على تماس مباشر مع النهايات الدراماتيكية في شرقي المتوسط، فهي التي بدأت التحرك مبكرا بزيارات لدمشق، واليوم تحاول ترتيب الشكل الديبلوماسي لجغرافية واسعة ومقلقة؛ فالاستقرار السوري بالنسبة لها هو معادلة أمنية – سياسية تتسم بأمرين:
قدرة إدارة الصراع في الداخل السوري خصوصا في مسألة قسد، فأي ترتيب سياسي بين سلطة دمشق والأكراد سينعكس على الحدود بين الدولتين، وسيشكل نموذجا بالنسبة لأكراد تركيا، فالاتفاقات المتعثرة حتى اللحظة بين الحكومة الانتقالية وقسد هي في النهاية ستنتج معادلة دقيقة مرتبطة بحسابات أنقرة الإقليمية.
الأمر الأخطر هو السياسات الخاصة بالحكومة السورية، فرغم الوضع الهش للنظام السوري الجديد، لكن هذه الهشاشة تحمل معها احتمالات تحولات خطيرة، فتصاعد النفوذ الإقليمي يغير من المشهد السوري يوميا سواء في الجنوب حيث التدخلات "الإسرائيلية" اليومية، أو في الشمال الشرقي وصراع قوات التحالف مع داعش.
التحرك التركي ليس فقط نحو دمشق، بل عبر دمشق، وتعيين نوح يلماز مؤشر على استخدام هذه العودة كبوابة لإعادة تموضعها داخل صراع النفوذ القائم حاليا، وهي تبدأ بـ"الرجل القوي" الذي يعرف توزع القوة على الجغرافية السورية، فأنقرة تتعامل مع دمشق بوصفها "حجر الزاوية" في إعادة توازن المنطقة، وتدرك أن أي صيغة أمنية أو اقتصادية لا يمكن أن تستقر دون التعامل مع التأثيرات المحتملة القادمة من دمشق، والعودة الدبلوماسية لا تقتصر على رفع مستوى التمثيل أو فتح السفارات، بل تعبّر عن مرحلة جديدة من التفكير التركي الإقليمي في مرحلة ما بعد الصراع، فهي تُعيد تعريف المصالح عبر التفاهم لا عبر الوكالة أو الصدام.
العودة التركية إلى سوريا هي انعكاس لتحول عميق في إدراك أنقرة لدورها وحدود قوتها، إنها ليست عودة إلى الماضي، بل إلى الواقعية السياسية التي طال غيابها. فتركيا اليوم لا تبحث عن انتصار، بل عن تموضع يضمن لها حضورًا في الترتيبات النهائية، ويفتح لها نافذة على شرق أوسط جديد يتشكل من بين ركام الحروب والخيبات.


