هاشتاغ
بحث

هل يصنع السوريون استبدادهم؟

09/10/2025

هل-يصنع-السوريون-استبدادهم

شارك المقال

A
A


مالك الحافظ


لم يكن الاستبداد في سوريا فعلاً معزولاً لحاكمٍ متفرّدٍ بالسلطة، بقدر ما كان نتاجاً لتفاعلٍ طويلٍ بين سلطةٍ مهيمنة وجماعةٍ أَلِفت الخضوع حتى صار جزءاً من لغتها الأخلاقية اليومية. السؤال اليوم، بعد سقوط نظام الأسد، لا يتوقف فقط عند شكل السلطة الجديدة أو شعاراتها، بل لا بد من أن يذهب إلى طبيعة التربة التي نبت منها الاستبداد نفسه. فهل تخلّص السوريون من الطغيان أم تخلّصوا فقط من طاغية، وهل يمكن أن تقوم ديمقراطيةٌ فوق مجتمعٍ لا يزال يعيش بمنطق المطيع لا المواطن.


لقد كتب ميشيل فوكو أنّ السلطة ليست هرمية بل شبكية، تتوزع في تفاصيل الجسد الاجتماعي؛ في المدرسة، في البيت، في اللغة، وفي العلاقات الأبوية. الطاغية لا يحكم وحده، حيث يُعاد إنتاجه في تفاصيل الحياة اليومية، عبر ممارسات الطاعة الصغيرة التي يقوم بها الناس دون أن يشعروا بأنهم يمارسون سلطةً على أنفسهم. أمّا كانط فقد رأى في الطاعة فضيلةً حين تكون طاعةً للعقل الأخلاقي وليس للإنسان، أي التزاماً ذاتياً بما يراه المرء واجباً وليس خضوعاً لما يفرضه الخارج.


بين هذين المفهومين يمكن فهم التجربة السورية كحالة من الطاعة المريضة، تقوم على غياب العقل الأخلاقي والوعي بالذات، ويغذّيها خوفٌ عميق من الفراغ ومن الآخر ومن النفس أيضاً.


منذ خمسينيات القرن الماضي، لم تُبنَ السلطة السورية على الإكراه المادي وحده، بل على تحويل الخضوع إلى عادة وطنية. كانت المدرسة تدرّب على الانضباط أكثر مما تغرس حسّ الانتماء، والمؤسسات الاجتماعية ترسّخ الطاعة بوصفها قيمة، فالموظف يخضع للمدير، والمرأة للرجل، والابن للأب، والتابع لرئيسه. ومع مرور الوقت تحوّل هذا السلوك إلى نمط حياة يربط الولاء بالنظام، وليس بالقانون أو المصلحة العامة.


كانت الطاعة غلافاً للهوية، لا مجرد سلوك، فكلّ علاقة سلطة – من المدرّس إلى الشرطي إلى ربّ الأسرة – أعادت إنتاج نموذج الرئيس الواحد، حتى صار السوري يرى في نفسه نسخةً مصغّرة من الحاكم.


الإعلام بدوره لم يكن يكتفي بتقديس الأسد، فهو كان يدرّب الناس على الصمت كقيمة، ولم يكن يُطلب من المواطن أن يصدق ما يسمعه، بل أن يتصرّف كما لو أنه يصدق، وهي ذات المعادلة التي شرحتها ليزا ويدن في السيطرة الغامضة؛ بحيث يعيش الفرد في كذبٍ جماعي يعلم أنه كذب، لكنه يستمرّ به لأن البديل هو العدم.


لقد سقط الأسد ولكن لم تسقط الطاعة، فيبدو أن هناك انكشاف لمراكزها الجديدة، وإنه لمن المقلق أن تُعاد ممارسة الخضوع في الكيانات السياسية الوليدة، بلباسٍ آخر.


ليس من السهل أن نحمّل الناس مسؤولية استبدادهم، فالثقافة التي تصنع الخوف تصنع في الوقت نفسه نوعاً من الراحة فيه. الخضوع يُريح لأنّه يعفي من التفكير والمسؤولية، وكما يقول إريك فروم في الخوف من الحرية، فإن الإنسان حين يواجه الحرية المطلقة يشعر بالرعب، فيبحث عن سلطةٍ تحميه من ذاته.


الطاعة في هذا المعنى، استجابة نفسية عميقة لحاجةٍ إلى النظام والثبات في عالمٍ فوضوي، لذلك يستمرّ السوري في البحث عن "حاكمٍ صالح" وليس عن نظامٍ عادل، وعن "قائدٍ قوي" لا عن عقدٍ اجتماعي متوازن.


يجب أن ندرك بأن الديمقراطية ليست صناديق اقتراع ولا دستوراً مكتوباً فقط أو انتخابات شكلية وإعلان دستوري يتم تفصيله على مقاس أي سلطة، إنما هو عقد أخلاقيّ يقوم على إرادة الفعل الحرّ. ما لم يتعلّم السوري أن يقول "لا" دون خوف، فلن تنفعه كلّ النصوص الدستورية، فالمجتمع الذي يطيع عن قناعةٍ نفسية لا يحتاج إلى سجانٍ خارجي؛ إنه يصنع سجنه بنفسه.


التحرر هنا يبدأ بإسقاط فكرة السلطة في داخل الوعي الجمعي، وإعادة تعريف الطاعة كالتزامٍ بالقانون لا خضوعٍ للأشخاص.


ربما تكون الخطوة الأولى في تفكيك الاستبداد هي استعادة ما سماه ألبير كامو "التمرد الأخلاقي"، بأن تقول لا، ولكن بطريقةٍ تحفظ معنى الإنسان، فلا يكون تمرّداً فوضوياً ولا انتقاماً، إنما انشقاقاً داخلياً عن منطق القطيع.


أن يتمرّد السوريّ اليوم يعني أن يختار الأخلاق قبل الولاء، وأن يمارس الحرية بوصفها مسؤولية وليس شعاراً. بهذا فقط يمكن أن تتحول الطاعة من خضوعٍ سياسي إلى التزامٍ قانوني، ومن خوفٍ إلى وعي، ومن مجتمعٍ متفرّق إلى شعبٍ قادر على أن يصنع دولته بنفسه.


الأسد سقط، لكنّ الاستبداد لم يسقط بعد. وما لم يخرج السوري من طاعته القديمة، سيبقى كلّ نظامٍ جديدٍ، مجرّد وجهٍ آخر للطغيان الذي ساهمنا جميعاً في صناعته.

الأسد سقط، لكنّ الاستبداد لم يسقط بعد. وما لم يخرج السوري من طاعته القديمة، سيبقى كلّ نظامٍ جديدٍ، مجرّد وجهٍ آخر للطغيان الذي ساهمنا جميعاً في صناعته.

التعليقات

يستخدم موقع هاشتاغ والمنصات التابعة له ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على الموقع، وتقديم محتوى مخصص، وتحليل استخدام الموقع. هل توافق على استخدامنا للملفات لهذه الأغراض؟ يمكنك رفض ذلك، وسنستخدم فقط الملفات الضرورية لتشغيل الموقع.

هاشتاغ بيحكي عنك

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى في مناصرة المواطنين في المنطقة العربية وتمكينهم والدفاع عنهم ونقل أخبارهم وفق المواثيق الأممية والقواعد المهنية

أسّسها محمد محمود هرشو

محمد محمود هرشو

جميع الحقوق محفوظة - Hashtag هاشتاغ © 2015 - 2025