رأي - محمد محمود هرشو
سنوات كثيرة مضت ناضل خلالها السوريون على اختلاف أصطفافاتهم وأدواتهم من أجل دولة عادلة .
نفس الأزمة وبنفس المسببات ناضل من أجلها المواطن السوري أينما كان، أزمة الثقة بين الحاكم والمحكوم، بين أصحاب السلطة والشعب، سواء أيدوهم أم عارضوهم، فريق يُطالب بحقوقه، وآخر يخونه ويكفره أو حتى يقتله. كُلٌ يُعَرف الوطنية وفقاً لمنظور واحد يضمن بقاءه دون غيره.
ورغم خصوصية المجتمع السوري الذي يتسم بالاعتدال، إلا أنه لم ينجز استقلاله بعد، إلا من خلال التغذية الطائفية والمناطقية بما لا يتسق مع شعارات السلطة المغايرة لذلك.
يعاني هذا المجتمع من حاجته إلى دولة عادلة واضحة النصوص والتعاليم والتعاريف والمفاهيم، بما في ذلك مفهوم العدالة وتعريف الدولة ومطالبها من المجتمع .
هذا ما توسمه أهلنا في الساحل السوري. فبالرغم من أنهم صنفوا باعتبارهم الحاضنة الشعبية للرئيس الهارب بشار الأسد، إلا أنهم حاولوا الاندماج فيما تعطشوا له لعقود، لكنهم صُدموا بالتسلط عليهم تحت شعار "فلول" والذي تختلف مفاهيمه وتعاريفه وأماكن استخدامه بحسب الحاجة، وهو "النيو لوك" لمصطلح "إرهابيين" واللذان قضيا على مفهوم الدولة العادلة، وأعاد هذا المفهوم الناس لأزمة "ثقة" مع دولتهم الوليدة.
كذلك هذا ما يُخيف أهلنا السوريين في الجنوب، ويجعلهم يطالبون بالأُطر التي يعتقدون أنها الضامن للوصول إلى دولة عادلة (دستور - انطلاق عملية سياسية - مؤسسات حكومية غير قائمة على الإقصاء..) كونهم وغيرهم من المكونات السورية ،حتى الأكثرية منه لم يجدوا خلال الأشهر الماضية سوى خطابات وتصرفات تذكرنا بالماضي الذي لم ولن ينتج عنه "دولة عادلة" والذي يقوم على تمسك أصحاب السلطة والمصالح بمفاهيم ضيقة وهدامة كالطائفية والعرقية، والتي يعتقد أصحابها كما أسلافهم أنها الضامن للتعبئة ورص الصفوف حولهم.
لكن من يعرف هذه البلاد يعرف أنها لن تزهر، بل لن تُحكم إلا "بالاعتدال" فطبيعة أهلها التي تشبه مناخها (متقلب ويحتوي جميع الفصول)، فهم معتدلين تارة، ومتقلبين أخرى.
من يريد أن يكون خليفة لمعاوية في حُكمهم عليه أن يلتزم في تعاليمه السياسية، وليس فقط الدينية، فدولته التي حكمت البلاد لتسعين عاما "الأموية" لم تتجاوز نسبة سكانها المسلمين 40% فقط من أهل البلاد. لكنه اشتهر بدهائه السياسي، فاستطاع ترسيخ سلطته عبر بناء جهاز إداري قوي مستفيداً من أسلافه (التجربة البيزنطية المحلية)، و وطد الأمن عبر مفهوم الدولة العملية، مما وفر بيئة ملائمة للتجارة والاقتصاد، واختار قضاته وولاته ممن عُرفوا بالاستقلال في أحكامهم، وعين عُماله وكبار موظفي الدولة وفق الكفاءات، ما أدى لوصول الكثير من غير المسلمين، فعزز التعايش والاستقرار، وعزز اللامركزية، مما أتاح المرونة في تطبيق العدالة والبناء وفقاً للسياق المحلي.
أما تكرار نفس الأسباب والطائفية والعنجهية والشعارات التي انتهجتها دولة البعث فستؤدي حتماً إلى نفس النتائج، لكن هذه المرة دون أن يطول الزمن، فالمجتمع الذي صدق شعارات البعث لسنوات دون أن يلمس نتائج على الأرض ليس لديه المتسع ليتعايش مع غيره في نفس القوقعة لأشهر قليلة حتى ..ولنا من التاريخ عِبَر .. والله على ما أقول شهيد.


