مازن بلال
مسألة الجاسوس "الإسرائيلي" إيلي كوهين ترتبط ارتباطاً مباشراً في تصور سوريا الذهني، فاسترجاع وثائقه يشكل عملاً ببعدين: الأول رمزي له علاقة بطبيعة الصراع داخل المجتمع السوري، والثاني سياسي بالعلاقات التي تظهر ظهوراً مفاجئاً لتكشف أن الأمن الإقليمي لم يعد معنياً بالخطر "الإسرائيلي"، ولا حتى بكسرها سيادة الدول المحيطة بها، فالاتفاقات الإبراهيمية وبصرف النظر عن تفاصيلها تفترض شروطاً على مستوى الشرق الأوسط معنية فقط بحماية "إسرائيل".
فيما يتعلق بدمشق فإن تصريحات نتنياهو بخصوص الحصول على الوثائق الخاصة بإيلي كوهين تضع تاريخ سوريا السياسي في منطقة حرجة، فقصة هذا الجاسوس لا علاقة لها بنظام سياسي محدد، على الرغم من أن قضيته حدثت في مراحل البعث الأولى، لكنها في مجملها مسألة وطنية مرتبطة بسردية الصراع الخاصة مع "إسرائيل"، وقصة محاكمته لا تصور حدثاً؛ بل تحدياً سياسياً خاضته السياسة السورية في الستينيات في المرحلة الحرجة التي سبقت حرب حزيران 1967م.
كسر كل ما يحيط بقضية كوهين اليوم يعبر من مرحلة جديدة تتم فيها تصفية "إسرائيل" من التصور السوري، وعلى الرغم من أن قضية هذا الجاسوس من "منسيات" الأجيال الحاضرة، فإنه جزء من ذاكرة الدولة ومؤسساتها التي تتم تصفيتها تصفية ممنهجة، فبعيداً عن مسألة إنهاء النظام السياسي السابق، فإن الدولة ليست فقط قوانين؛ بل تراثاً حاضراً في "الذهنية السياسية"، وهذا الأمر يبدو غائباً اليوم وكأن سوريا وُلدت اليوم لا في عام 1918م بـ"المؤتمر السوري".
البعد الآخر يظهر في العنجهية "الإسرائيلية" التي باتت قادرة على اختراق المؤسسات السيادية، فإعلان استعادة ملفات "كوهين" ومقتنياته تنقل آلية سياسية لا تنظر إلى سيادة الدول؛ بل إلى "القوة الإسرائيلية" التي تفرض الحلول، وبهذه الصورة فإن علينا تجاهل كل التسريبات بخصوص "التطبيع"؛ لأنها مسألة مرتبطة بـ"السياسات الإسرائيلية" لا بالاستراتيجيات الخاصة بسوريا أو المنطقة.
القضية مؤلمة بكل تأكيد لكن فهم مؤشراتها الإقليمية أمر أساسي، فترتيبات ما بعد حرب غزة تظهر اليوم بشكل أحداث متناثرة ابتداء من التوسع "الإسرائيلي" في الجولان، وليس انتهاء بمسألة "إيلي كوهين"، فقاعدة العلاقات الإقليمية الجديدة هي "كسر السيادة" قبل أي تطبيع، وهي أيضاً جعل القضايا الوطنية التي سيطرت على التاريخ السياسي شأناً هامشياً، ووضعه قيد المحاسبة وكأنه "خطيئة" تاريخية، فالسردية التي يتم تكريسها اليوم أن "الصراع" بأكمله هو خطأ تاريخي، وتتم محاكمة تسعة عقود من تاريخ سوريا على خلفية السياسات "الإسرائيلية" اليوم.
آليات العلاقات الإقليمية تسير اليوم باتجاه "شطب السيادة" بوصفه شرطاً لقيام الدول، وهو أمر يخالف كل قواعد الجغرافيا – السياسية، فكل منجزات العصور الحديثة من عولمة واختراق تكنولوجي لا يعني انتهاء سيادة الدول، على الأقل حتى الآن، بينما تسير الأمور في شرق المتوسط باتجاه مخالف بتقديم حسن النيات السياسية بدلاً جعل قوة الدول أساساً لأي علاقات إقليمية.