هاشتاغ – رأي: مالك الحافظ
في السادس عشر من حزيران الجاري، انقضت المهلة المحددة لتشكيل هيئتي العدالة الانتقالية والمفقودين في سوريا، بصمتٍ رسمي مريب. مرّ التاريخ المرتقب لانبثاق هاتين الهيئتين، ومرّ معه الامتحان الأول لمصداقية السلطة الانتقالية في بناء ما يُفترض أنه نواة منظومة العدالة لما بعد الاستبداد.
في أي مسار عدالة انتقالية محترم، يكون حق المعرفة هو نقطة الانطلاق، فهو شرطٌ بنيوي في تأسيس أي سردية وطنية جامعة، وأي ثقة محتملة بين الدولة والمجتمع. حين يُحجب عن الشعب السوري أي توضيح بشأن التقدم أو الإخفاق أو حتى النوايا المتصلة بملف بهذه الحساسية، فإننا نواجه إضعافاً خطيراً لثقة الجمهور بأسس التعاقد الأخلاقي والسياسي بين الدولة والمجتمع.
العدالة الانتقالية تتطلب فتح جرح الحقيقة على العلن، ومقاربة الذاكرة الجماعية بشفافية وشراكة مجتمعية، غير ما جرى حتى الآن هو نقيض ذلك تماماً؛ فلا إفصاح، لا شفافية، ولا حتى توضيح لأسباب مخالفة المرسوم ذاته. هذا يُثير تساؤلات مشروعة حول قدرة السلطة الانتقالية على إدارة هذه الملفات الحساسة بروح مختلفة عن النمط المركزي الاستبدادي الذي خبرته البلاد لعقود.
يُعدّ ملف المفقودين أحد أكثر الملفات حساسية في الذاكرة السورية المعاصرة، لما يحمله من رمزية إنسانية ووطنية تتجاوز الجانب القانوني إلى عمق المعاناة الاجتماعية. ومع ذلك، لم يُقدَّم حتى الآن تفسير واضح لتأخر تفعيل الهيئة المعنية بهذا الملف، على الرغم من صدور المرسوم المُنظِّم لها منذ أكثر من شهر.
وفي الكلمة العلنية الوحيدة التي خُصِّصت لهذا الشأن من قبل رئيس الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، لم يُمنح الضحايا أو ذووهم أي مساحة حقيقية لفهم الإطار العام أو الرؤية المستقبلية لعمل الهيئة، وهذا الغياب يعكس حاجة ملحّة إلى مراجعة مدى جاهزية البنية الانتقالية للتعامل مع قضايا الذاكرة والعدالة بمستوى الجدية والمسؤولية المطلوبين في هذا السياق بالغ التعقيد.
ما نشهده اليوم يطرح تساؤلات جوهرية حول كيفية إدارة مسار العدالة الانتقالية في سوريا؛ فهل هو مسار تشاركي مفتوح، أم عملية مؤسسية تُدار من أعلى هرم السلطة الانتقالية دون إشراك فعلي للمجتمع المدني والضحايا. عند صياغة الهياكل واللوائح في غياب نقاش سوري عمومي حقيقي، تتقلّص فرص بناء عدالة انتقالية قادرة على إنتاج سردية وطنية جامعة، ويُخشى من إعادة إنتاج ممارسات تقييدية تفضي إلى هندسة الذاكرة الجمعية السوريّة والمساءلة بما لا يخلّ بمنظومة المصالح والتحالفات القائمة. هذا بوضوح ومباشرة ليس مسار عدالة انتقالية، وإنما إعادة إنتاج لمنظومة “العدالة الامتيازية”، تلك التي تُمنح وتُمنع وفقاً لموقعك من السلطة.
إنّ أحد أبرز التحديات التي رُصدت في عدد من تجارب العدالة الانتقالية المقارنة، يتمثّل في ما يُعرف بـ"نزع الطابع العمومي عن العدالة"، أي تحييد هذه المسارات عن النقاش المجتمعي العام، وتحويلها إلى إجراءات تقنية تُدار داخل دوائر مغلقة، غالباً بحجج الكفاءة أو السرعة أو الاعتبارات الأمنية. هذا النمط يهدد بإفراغ العدالة من مضمونها التشاركي، ويُضعف قدرتها على المساهمة في ترميم العقد الاجتماعي، إذ لا يمكن فصل آليات الإنصاف عن الفضاء العمومي الذي يمنحها شرعيتها الأخلاقية والسياسية.
لذا فإن غياب التشاور الواسع في الحالة السورية حول تشكيل الهيئات المعنية، وعدم توضيح رؤيتها أو مسار عملها، يفتح المجال أمام هذا النمط المغلق من الإدارة، بما يُخشى أن يفضي إلى استبعاد مجتمعي طويل الأمد من صناعة الحقيقة والعدالة.
العدالة الانتقالية لا يمكن أن تُختزل في تشكيل الهيئات أو إصدار المراسيم، فهي بالأساس مسار سياسي–أخلاقي طويل ومعقّد، يُقاس بمدى الالتزام بالمكاشفة والمساءلة، وبقدرة الدولة الوليدة على الاعتراف العلني بجراحها المفتوحة. إنّ جوهر هذا المسار يكمن في إحداث قطيعة فعلية مع ما يسميه باحثو العدالة الانتقالية بـ"ثقافة الصمت"، أي ذلك النمط الجمعي الذي يُفضّل التواطؤ مع النسيان على مواجهة الحقيقة. فحين تُدار الذاكرة الجماعية وفق ما يُعرف بـ"سياسات النسيان" تتعرض العدالة لخطر التفريغ من بعدها التحولي، وتغدو مجرد ممارسة شكلية لا تمسّ البُنى العميقة للإقصاء والإنكار.
ومن هنا، فإن إعادة الاعتبار لحق الضحايا في المعرفة يمثل حقاً تأسيسياً في إعادة بناء العقد الاجتماعي. العدالة تبدأ بإرادة جماعية لمواجهة الحقيقة بكل أبعادها المؤلمة، ومغادرة منطق الإخفاء نحو منطق الاعتراف، بوصفه شرطاً أولياً لأي مصالحة ذات معنى.
وهنا نطرح السؤال الأهم؛ ما جدوى أي هيئة، إن لم تكن نابعة من الشعب، ولأجل الشعب، ومتاحة للشعب السوري. إن تم تشكيلها في الظل، واعتمادها كأمر واقع، فهي هيئة تفشل في تمثيل الضحايا قبل أن تبدأ، وستكون مجرد غطاء قانوني لدفن العدالة نفسها باسمها.
إن مصير هيئة العدالة الانتقالية وهيئة المفقودين، مؤشر وجودي على ما إذا كنا نحن في سوريا على طريق بناء دولة حقيقية، أم أننا نسير في نفق الدولة الورقية.