هاشتاغ - رأي: نضال الخضري
داخل الحدث السوري اليومي هناك قلق مختلف لا يرتبط بمسارات نشرات الأخبار، ولا ببدايات بعض الحروب ونهاياتها، فهو هواجس من الصور التي تتبدل من دون أن تعطي أي انطباع بأن الحياة الطبيعية ممكنة، وهو يبدأ من كم السيارات ذات الدفع الرباعي التي غزت الشوارع وينتهي بتدفق المتسولين إلى إشارات المرور، ووسط هذا التناقض تتراكم أسئلة "وجودية" عن شكل الحياة الممكنة التي تجعل الهدوء ممكناً، والمستقبل قابلاً للتصور.
وفي سياق هذا الحدث ضجيج وسائل التواصل عن الأخبار التي تتصادم ببعضها، سواء تعلقت بتفاصيل تفجير كنيسة مار الياس في دمشق، أم بردود الفعل التي صدرت نتيجة تضارب الروايات حول من نفذ العمل، أو حتى الموقف من كلمة بطريرك أنطاكية للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر بعد التفجير، وفي محصلة ما يجري تتراكم كل الكلمات وتشكل حاجزاً في وجه الناس الذين يبحثون وسط سوريا عن بدايات جديدة، ومساحات يستطيعون فيها الخروج من تلك الدوامة.
لكن المدن السورية بأكملها تقف على عتبة خطرة لا ترتبط بالعنف مباشرة، ولا بالمفارقة ما بين المواقف المتشنجة والرغبة في الحياة، فهناك هوية باتت مفقودة لا علاقة لها بالنظم السياسية، ولا بالحرب التي اشتعلت بين إيران و "إسرائيل"؛ بل بعدم القدرة على التعرف من خلال التفاصيل على الجامع الذي كون المدن وربط أحياءها، فهناك أزمة هوية على المستوى الاجتماعي لم تخلقها السياسة؛ بل الانعطاف بشكل سريع في مسار السوريين من الحرب باتجاه "الاستهلاك".
في سوريا رغبة جامحة للوقوف على الصورة النهائية لكل التفاصيل، فمن أزمة الكهرباء والماء إلى تحول المدينة لسوق بضائع فقط ووصولاً إلى الأنباء الأمنية التي تبدو وكأنها جزء من برنامج إذاعي تبثه وسائل التواصل يومياً، تفقد المدن هويتها فتصبح هشة، بينما تستمر الحياة في الشوارع بلونها الخاص الذي لم يألفه أحد، ولم تتصوره كل أشكال التفكير والتحليل السياسي.
باتت الحياة مجرد إيقاع للإجراءات الرسمية وللصور القادمة من وسائل التواصل وكأنها "مرجعية" لا يمكن تجاوزها، ولا يستطيع أحد القفز على الروتين الذي تفرضه على الناس، فما بين الفقر والطوابير اللاهثة على كوات الصرفات الآلية لقبض الرواتب من جهة وترف سيارات الدفع الرباعي من جهة أخرى، هناك ثقافة يصعب تخيلها تغزو الجميع، وتجعل أحياء المدن كابوساً يومياً يفرض مساره على الناس وعلى المساحات الخاصة التي يحاولون الاسترخاء فيها.
يمتد هذا الكابوس اليومي إلى العمق الرمزي لما تعنيه المدينة نفسها، فالحي لم يعد يحمل ملامحه القديمة، والمقهى الذي كان مألوفاً صار نقطة لتداول الأخبار المتضاربة، والساحة العامة فقدت كونها مساحة تلاقي، لتصبح نقطة يحاول الجميع تجاوزها بأسرع ما يمكن، وهنا تصبح الذاكرة عبئاً أمام غرئابية الحاضر.
المأساة الحقيقية هي في المدن التي تتعلم كيف تنكر ماضيها لتعيش حاضرها، وفي الأشخاص الذين يضطرون يومياً لارتداء وجوه متعددة ليكملوا يومهم، وفي الفراغ الذي لم تستطع الشعارات ولا البيانات أن تجد مخرجا له، وسؤال معلق من نحن الآن؟ وما الذي تبقى من "نحن"؟