هاشتاغ
بحث

العقود الاقتصادية قبل الشرعية السياسية في سوريا؟

05/06/2025

مالك-الحافظ-هاشتاغ

شارك المقال

A
A

هاشتاغ - رأي مالك الحافظ


ليس من السهل أن تُكتب الأسطر التالية في بلد يتلمّس طريقه نحو بناء جديد، ولا أن تُقال خارج سياق الارتجاج الكبير الذي يعصف بسوريا بعد انهيار نظامها السابق وصعود سلطة انتقالية يُراد لها أن تكون مختلفة.


لكن؛ في البلدان الخارجة من النزاعات أو تلك التي تمرّ بمراحل انتقالية حرجة، تُقاس السلطة بقدرتها على إنتاج نظام سياسي قابل للمساءلة وبيئة مؤسسية تحتمل الثقة. فالسلطة في أي صيغة جاءت، لا يُفترض أن تكتسب شرعيتها من حجم التوقيعات أو عدد المشاريع المعلنة، بقدر ما يجب أن تتوافر الشروط التكوينية لما يسميه منظّرو السياسة بـ"الشرعية المؤسسية" القائمة على المشاركة، الشفافية، وتوازن السلطات.


يمكن الاستعانة هنا بمصطلح "الخصخصة المُقنّعة" التي غالباً ما تبدأ من بوابة الاستثمار الخارجي، لكنها تؤدي تدريجياً إلى فقدان السيطرة السيادية على القرار الاقتصادي، حين تتحوّل الوظيفة العامة إلى امتياز خاص مموّل من الخارج ومحصّن من الرقابة المحلية.


ليست المشكلة في أن تعقد السلطة الانتقالية اتفاقيات مع شركات فرنسية أو قطرية أو أميركية في مجالات النقل البحري أو الكهرباء، لكن المشكلة تكون في أن تُعقد هذه الاتفاقات في ظل غياب الإطار المؤسسي الذي يُفترض أن يحيط بها. فالاقتصاد كما يُفهم في أدبيات السياسة العامة، هو حقل للصراع الرمزي حول من يملك القرار ومن يُعيد توزيعه. وما نعيشه اليوم في سوريا هو تَوسُّع اقتصادي دون تَبلور سياسي، وهو خللٌ بنيوي غالباً ما قد يقود إلى نشوء "دولة المقايضة" التي تستبدل المواطنة بالخدمات، وتختزل العقد الاجتماعي في شبكة من الامتيازات غير الشفافة.


القلق يتعلق هنا بالسياق الذي تُبرَم فيه عقوداً اقتصادية طويلة الأمد من دون مكاشفة ولا مساءلة ولا مناقصات من قبل سلطة انتقالية لم تُنتج بعد برلماناً منتخباً، ولا تخضع بعد لرقابة قضائية فاعلة، ولا يتوفر في ظلها مجتمع مدني قادر على الوصول إلى المعلومات.


الخلل البنيوي الذي نواجهه يتجاوز الإجراءات ليطال الفهم نفسه لوظيفة الدولة، إذ يغيب تماماً ما يُعرف في فلسفة القانون بـ"القاعدة التأسيسية"، أي تلك البنية التي تضمن أن تكون القوانين والسياسات صادرة عن إرادة عامة خاضعة للنقاش. لذا فإنه عند تحول السلطة إلى "وكالة تعاقد اقتصادي" دون قاعدة سياسية حقيقية، فإن الدولة تفقد معناها كحامل للمصلحة العامة، خاصة أن اتفاقات كهذه سترهن موارد البلاد لعقود قادمة.


لا أحد ينكر أن البلاد بحاجة إلى تلك الاستثمارات، ولا أحد يعارض إيقاظ الاقتصاد المنهك برافعة خارجية، لكن ما يثير القلق هو هشاشة البنية التي تُبرمها.


ثمة خيط رفيع بين الانفتاح على الاستثمار، والانزلاق نحو ما يسميه بعض الباحثين "الدولة السوقية" التي تفوّض الوظيفة العامة إلى شركات خاصة تحت غطاء التنمية. الفارق بينهما هو وجود مؤسسات رقابة وتشريع وتوازن، وما لم تبادر السلطة الانتقالية إلى بناء هذه المؤسسات أولاً، فإنها تكرر – ربما من حيث لا تدري – تجربة هندسة الاقتصاد من فوق، بينما تُترك القواعد الشعبية لتنتظر نتائج اتفاقات لا تعرف عنها شيئاً.


في النماذج الانتقالية الناجحة، كان الاستثمار الخارجي أداة من أدوات ترسيخ الاستقرار، لكنه لم يُبَنِ الدول وحده، فالأموال لا تصنع سياسات، والمشاريع لا تنتج دولة، فلطالما كانت السلطة التي تفكك المؤسسات باسم الكفاءة الاقتصادية، أقرب ما تكون إلى شكل مقنّع من "الدولة الزبائنية"، التي يُعاد فيها توزيع الموارد على أساس الولاء لا المصلحة العامة.


الأخطر أن تتحوّل السلطة، بحسن نية أو بسوء تقدير، إلى جهة ترى في الاقتصاد طريقاً لإثبات الوجود السياسي، وهو ما يجعلها تذهب بعيداً في الاتفاقات، دون أن تسأل إن كانت تمتلك التفويض في هذه المرحلة للذهاب هذا البُعد. وهنا بالضبط يكمن المأزق؛ حين تبدأ سلطة ما قبل الدولة في بناء ما بعد الدولة، قبل أن تستكمل شرعيتها السياسية.


الأصل في إدارة المال العام أن تخضع للعقل الجمعي لا لإرادة السلطة فقط، وهنا لا نعني بذلك أن يكون كل مواطن شريكاً في كل بند، لكن أن تكون هناك قنوات تمثيلية حقيقية قادرة على مساءلة من يوقّع، ومن يفاوض، ومن ينفّذ.


المسألة في هذا السياق تتعلق بشرعية العقد الاجتماعي الجديد، فلا يمكن أن نبني دولة على أسس ديمقراطية إذا كنا نكرر ممارسات احتكارية في اتخاذ القرار، ولا يمكن أن نمنح الثقة لمؤسسات لم تُختبر بعد، إذا كانت تستنسخ منطق الأمر الواقع، وتُبقي القرارات الكبرى طي الغموض.


هنا تبرز الحاجة إلى مقاربة أكثر جذرية لمسألة الدولة، فما يجري لا يُختزل في سياسات مؤقتة، وإنما هو "تأسيس سياسي" فعلي، أو ما يشبه الكتابة الصامتة لعلاقة جديدة بين السلطة والمجتمع. هذه الكتابة لا تجري في نصوص دستورية بقدر ما تتجلى في البنية اليومية للقرار؛ من يوقّع؟ من يفاوض؟ من يراقب؟ ومن يُستثنى من الحق في الفهم والمحاسبة؟. فإذا كانت السلطة تمارس اليوم هذه الوظيفة التأسيسية من دون مساءلة، فهي ترسم حدود المستقبل على نحو أحادي، وتُعيد إنتاج شكل من أشكال "السيادة المختزلة".


ما نحتاجه ليس رفضاً للعقود، بقدر ما نحتاج لتقييدها بالرقابة والمساءلة والمشاركة، وبوضع التنمية والتعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار ضمن إطار قانوني–سياسي يُعيد الاعتبار إلى المواطن كمرجعية للقرار.

التعليقات

الصنف

خطوط حمر

منشور حديثاً

الأكثر قراءة

تابعنا

مقالات ذات صلة

يستخدم موقع هاشتاغ والمنصات التابعة له ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على الموقع، وتقديم محتوى مخصص، وتحليل استخدام الموقع. هل توافق على استخدامنا للملفات لهذه الأغراض؟ يمكنك رفض ذلك، وسنستخدم فقط الملفات الضرورية لتشغيل الموقع.

هاشتاغ بيحكي عنك

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى في مناصرة المواطنين في المنطقة العربية وتمكينهم والدفاع عنهم ونقل أخبارهم وفق المواثيق الأممية والقواعد المهنية

أسّسها محمد محمود هرشو

محمد محمود هرشو

جميع الحقوق محفوظة - Hashtag هاشتاغ © 2015 - 2025