نضال الخضري
نحن نملك صورة غريبة تبدأ في غزة وتستريح في مكة ثم تنتشر عبر الأفق على مساحة العالم، فالعيد هو تصوراتنا عن رحلة البشرية نحو الإيمان، وتاريخ هذا التصور كان عليه التوقف في محطات كانت آخرها غزة؛ لأن الوقوف في "حي الشجاعية" يماثل حالة الخشوع على جبل عرفة، والفارق هو مستوى الخطر الذي يجعل "الشجاعية" سابقة تاريخية في حجم الموت، بينما يبقى
عرفة لحظة خشوع منقطعة عن مصير باقي المسلمين.
لنحاول قلب المفاهيم قليلاً ونستبدل بـ"الأعياد" "الأمجاد" التي نسجلها يومياً على صفحات الحرب في غزة، وعلى "جبهة" القصف "الإسرائيلي" في الجنوب اللبناني وفي ضاحية بيروت الجنوبية أو حتى في الجنوب السوري، فكرامة العيد والتكبيرات تعيد خارطة الأمجاد التي تكتبنا اليوم بوصفنا جماعات بشرية تخوض أطول مفاوضات في التاريخ لإيقاف المجازر في غزة، فالمجد هو في قدرتنا على إدارة التفاوض حتى آخر طفل يسقط في رفح، وعندما يأتي العيد فإن الدماء تصبح في الذاكرة بينما يرتفع مجد التفاوض نحو السماء.
كل ما نذكره من العيد هو خارج رمزية الأضحية المقدسة التي جاءت تقديساً للنفس البشرية، فالفداء بـ"الذبح العظيم" كان اللحظة الفارقة لحالة الإيمان التي تقودنا نحو خلاص البشرية، لكن الذبح في اللحظة الراهنة ليس "عظيماً" لأنه يطال كل المساحات "الغزاوية" ويصبح المجد هو التباهي السياسي الذي يجعلنا مقتنعين بأن مساحاتنا باتت مغلقة، وأن شعائر الحج تمضي بأبهى صورة إعلامية بينما تحتجز "إسرائيل" شعباً بكامله.
يمضي العيد كخيال طائر في سماء مثقلة بالدخان، وتنتهي الرحمة من "الذبح العظيم"، فلم يعد الفداء طريقاً للخلاص، بل طقساً نمارسه فوق رماد المدن المنكوبة؛ إذ تذبح الطفولة من دون كبش، ويُقدّم الإنسان قرباناً من دون مفر، فالدم لا يُراق في طقوس الغفران؛ بل ينساب على الأسفلت، كأنه ماء الذاكرة، وفي غزة، لا تنتشر التكبيرات؛ بل تُكبل الأرواح بأمجاد السياسة.
أزمتنا في جدلية "الأمجاد" و "الأعياد" لأن الطقوس متشابهة، والمسار نحو "الرضا" عن النفس يبدو أسهل في البقاء تحت عباءة ما يحمله العيد من تراث طويل، بينما يبدو المجد حالة صعبة لأنها متراكبة مع صورتنا النهائية أمام الدماء والدموع، وأمام أطول حفلة شواء شهدتها البشرية للأطفال، فالمسألة أن غزة تضعنا في "المتاهة" التي نغرق في تفاصيلها، فتصبح "إدارة المجزرة" سياسياً أهم من الأرواح التي تزهق يومياً.
يأتي عيد آخر ونبقى متمسكين بكل التهويمات التي رافقت حياتنا منذ أن بدأت "إسرائيل" قضم "أعيادنا"، فكل المدن منكوبة بـ"خطيئة" غزة، وبالكبائر التي نحملها ونحن نشهد الصور القادمة ما بين رام الله والناصرة، ففوق أرضنا أمجاد لم نعد نحتملها، وأعياد مكتوبة بالخوف والذكر، وبأصوات مخنوقة غير قادرة على إطلاق التكبيرات، أو حتى الطواف بين جثامين الأطفال التي تصعد أرواحها كل يوم.
العيد فرح والأمجاد مأساة تجعل الأعياد غصة يصعب استيعابها ليس في غزة؛ بل في كل المشرق العربي.