نبيل صالح
حين تقف القوة على الحافة
في لحظةٍ تأمل من أعلى المنصات العالمية، حيث تُطلّ الولايات المتحدة على بقية العالم بقوتها العسكرية والمالية والإعلامية، تبدو وكأنها تتجاهل السؤال الأهم: هل بلغت الإمبراطورية الأمريكية ذروتها القصوى، وبدأ العدّ العكسي؟
من يعرف التاريخ السياسي للإمبراطوريات، يدرك أن النهايات لا تبدأ بانهيار خارجي مفاجئ، بل بتآكل داخلي بطيء، وإنكار متعمد للحقيقة. فهل تعيش واشنطن اليوم حالة إنكار؟ وهل تمثّل ظاهرة ترامب تعبيرًا عن "الجنون التاريخي" الذي يصيب الإمبراطوريات قبل سقوطها؟
الإمبراطوريات تولد وتموت… لكن أمريكا تُجرب شيئًا آخر
شهد التاريخ صعود وسقوط إمبراطورياتٍ عظيمة: من روما إلى العباسيين، من المغول إلى البريطانيين، وتشابهت جميعها في دورة حياتها: النشوء، التوسع، النضج، ثم التراجع والانهيار. وقد تحدث الفيلسوف ابن خلدون عن هذه الدورة مطولًا، مؤكدًا أن الترف والتراخي هما بداية النهاية. كذلك، حذر أرنولد توينبي من لحظة "العجز عن الردّ الخلّاق"، بوصفها مؤشراً لبداية التفكك الحضاري.
لكن الولايات المتحدة، بتفرّدها العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، بدت وكأنها تريد كسر هذه الدورة، مستندة إلى ماكينتها الاقتصادية والعسكرية وثروتها الرمزية كزعيمة "العالم الحر". إنها، بكلمات أدق، تحاول تجاوز الجاذبية الت
اريخية.
بين بايدن وترامب: إدارة الشيخوخة أم إنكارها؟
قدّمت إدارة جو بايدن نموذج "السيطرة الهادئة"، محاولة ترميم الداخل المتصدع واستعادة الحلفاء. لكنه بدا كرئيس تقليدي في عصر ما بعد التقليدية، كرجل يحاول إدارة الشيخوخة السياسية بالحنكة.
ثم ظهر دونالد ترامب ـ ليس كسياسي محافظ بل كـ"مقاول سياسي" استثمر في احتقان الداخل الأمريكي، وطرح نفسه مخلّصًا شعبويًا يعِد بإعادة أمجاد الماضي عبر الصدام لا الإصلاح. إنه قفزة في الهواء، وليس صعودًا حقيقيًا. هذه القفزة تعكس حالة ذهنية لإمبراطورية ترفض الاعتراف بعمرها التاريخي، وتحاول البقاء من خلال الجنون لا
العقل.
ما يسمى بـ"الدولة العميقة" في الولايات المتحدة ـ أي التحالف غير المعلن بين الأمن، المال، الإعلام، التكنولوجيا، والصناعات العسكرية ـ يمثل العقل البارد للإمبراطورية.
الدولة العميقة: كيف تُدار لحظة الإنكار؟
ما يسمى بـ"الدولة العميقة" في الولايات المتحدة ـ أي التحالف غير المعلن بين الأمن، المال، الإعلام، التكنولوجيا، والصناعات العسكرية ـ يمثل العقل البارد للإمبراطورية. هذا العقل لا يقبل بالتحوّل إلى دولة طبيعية، بل يُعيد إنتاج آليات السيطرة عبر الحروب الاقتصادية، العقوبات، الحصار، حروب الجيل الرابع، والتحكم بسلاسل التكنولوجيا.
في أعماقه، يريد هذا النظام تمديد التفوق الأمريكي، ولو على حساب الحقيقة، ولو بثمن الانقسام الداخلي. ولذلك فإن عودة ترامب لا تُعارض المنطق العميق للدولة، بل تُجسّد رهانها الأخير: إنكار السقوط بالضجيج.
المهرّج التراجيدي في مسرح النهاية
ترامب هو شخصية مثيرة للجدل، لكنه قبل كل شيء تجسيدٌ لـ"انفعال الإمبراطورية". إنه ليس استثناءً، بل مظهر من مظاهر تفكك البنية الأخلاقية للنظام السياسي. رجل أعمال لا يؤمن بالقيم بل بالمكاسب، ينظر إلى العالم كصفقة، وإلى الداخل الأمريكي كسوق غضب. وما يقدمه ليس مشروع دولة، بل عرضًا ترفيهيًا لتمديد الهيبة بصيغة وهمية.
إنه تجلٍّ واضح لحالة أمريكا اليوم: قوة هائلة، لكن بلا مشروع أخلاقي؛ إمبراطورية مُسلّحة، لكن بوعي سياسي
هشّ.
هل وصلت الولايات المتحدة إلى نهايتها العظمى؟
"النهاية" هنا ليست إعلان زوال الدولة، بل فقدانها دورها المركزي في قيادة النظام العالمي. فقد بدأت ملامح عالم متعدد الأقطاب تفرض نفسها: من صعود الصين والهند، إلى عودة روسيا، إلى تحفّظ أوروبا. لم تعد أمريكا زعيمة بالإجماع، بل شريكًا يثير الشكوك.
إن إنكار هذا التحوّل، بدل إدارته، يجعل من مستقبل الولايات المتحدة أكثر هشاشة. فالدولة التي تُنكر قوانين التاريخ، لن تنجو بالتحايل عليه.
تحوّلت سوريا، منذ عقد وأكثر، إلى مختبر مفتوح للسياسات الأمريكية في طورها المتأخر. فهي ساحة تجريب لحروب الوكالة، وفرض العقوبات، وتفكيك الدولة، دون أن تكون هناك نية أمريكية حقيقية لبنائها أو إنهاء أزمتها.
سوريا في مرآة الإمبراطورية: بين الإنكار الأمريكي وتفكك الجغرافيا
إذا كانت الولايات المتحدة تعيش، كما أشرنا، لحظةً إمبراطورية متأرجحة بين ذروة القوة وجنون السقوط، فإن تأثير هذا الانحدار لا ينعكس فقط في الداخل الأمريكي، بل يتسرّب إلى الهوامش الجيوسياسية التي طالما استخدمتها واشنطن كساحات نفوذ وتأديب وتوازن. ومن بين أبرز هذه الهوامش، تبرز سوريا، لا بصفتها لاعبًا، بل كورقة في يد لاعب مأزوم.
لقد تحوّلت سوريا، منذ عقد وأكثر، إلى مختبر مفتوح للسياسات الأمريكية في طورها المتأخر. فهي ساحة تجريب لحروب الوكالة، وفرض العقوبات، وتفكيك الدولة، دون أن تكون هناك نية أمريكية حقيقية لبنائها أو إنهاء أزمتها. وهذا لا يعود فقط إلى موقع سوريا الجيوسياسي، بل إلى التحول العميق في وظيفة السياسة الأمريكية نفسها: من مشروع قيادة عالمية، إلى إدارة فوضى إقليمية تصبّ في حسابات التفوق الإمبرا
طوري.
ما الذي تريده أمريكا من سوريا؟
تبدو واشنطن غير معنية بحل نهائي في سوريا، بل تكتفي بتكتيكات متغيرة هدفها الأساسي: منع استعادة الدولة السورية لعافيتها، وإبقاء البلاد رهينة الفوضى المنظمة، عبر أدوات متعددة:
ـ العقوبات الاقتصادية كأداة خنق منهجي.
ـ دعم الكيانات الانفصالية لتفكيك المركز.
ـ استخدام سوريا كورقة تفاوض في ملفات إقليمية كبرى.
إنها لا تريد سقوط سوريا التام، ولا نهوضها الحقيقي، بل استدامة الفراغ بوصفه شرطًا لإعادة إنتاج الهيبة الأمريكية في منطقة بدأت تنزلق من يدها.
المخاطر السورية في ظل جنون الإمبراطورية
ربط مستقبل سوريا بالرغبة الأمريكية المتأرجحة يعني السقوط في خمس دوائر خطرة:
1ـ تأبيد الأزمة لا حلها.
2ـ تفكيك السيادة الوطنية تحت شعارات خادعة.
3ـ استخدام سوريا كورقة تفاوض خارجية.
4ـ تحويلها إلى ساحة دائمة لحروب الجيل الرابع.
5ـ تفخيخ البنية المجتمعية بمشاريع لا وطنية.
هل يمكن لسوريا أن تستعيد قرارها؟
إذا كانت أمريكا ترفض الاعتراف بأنها بلغت الذروة، فإن التعويل على عقلها السياسي هو نوع من الانتحار البطيء. وعلى سوريا، للخروج من هذه الدائرة، أن تتحرر من الانتظارية، وتنفتح على العالم المتعدد، وتعيد بناء مشروع وطني داخلي لا يُصنع في غرف الاستخبارات ولا في مكاتب العقوبات.
بين منطق التاريخ ومهزلة الإنكار
الإمبراطوريات لا تموت فجأة، بل تذوي بهدوء… ما لم تختَر أن تسقط بصخب. والولايات المتحدة اليوم تعيش لحظة مفصلية: فإما أن تعترف بأنها بلغت ذروتها، وتدخل طور التوازن مع العالم، أو تواصل خداع الذات بالقفز في الهواء حتى يأتي السقوط حتميًا.
أما سوريا، فإنها تقف في مرآة هذا الانحدار الإمبراطوري. والخيار أمامها ليس أن تنتظر نهاية أمريكا، بل أن تُبادر إلى الخروج من ظلها، وإعادة تشكيل موقعها في عالم لم تعد أمريكا وحدها من يقرر مصيره.