هاشتاغ - رأي سعد لوستان
في ظل تفكك البنى السياسية في سوريا اليوم، وتفاقم أزمة 2025، يُعاد في أوساط سياسية وشعبية تداول رواية تقول إن فرنسا الاستعمارية قدمت للعلويين في مطلع القرن العشرين "فرصة تاريخية" لتأسيس كيان مستقل باسم "دولة جبل العلويين" وإن هذه الفرصة أُهدِرَت بسبب "عناد" رموز الطائفة ووطنيتهم المفرطة، وعلى رأسهم الشيخ صالح العلي.
هذا الطرح المغلوط يزدهر اليوم ويعاد تعويمه أكثر من أي وقت مضى، بفعل فاعل وبتأثّر من جاهل، وبلَيّ عنق المنطق والحقيقة التاريخية، في حين أن المشروع بأكمله كان فخاً استعمارياً يهدف إلى تفتيت سوريا.
قراءة في سياق التقسيم الفرنسي
التقسيم الفرنسي لعام 1920 كما وثقه فيليب خوري في (Syria and the French Mandate) كان جزءاً من خطة "فرّق تسد" (كما وصفه خوري بالحرف) لإنشاء كيانات لا تمتلك مقومات الدولة المستقلة، لا اقتصاداً مستقلاً، ولا جيشاً نظامياً، وغير قابلة للاعتراف الدولي.
ويقول فيليب خوري في كتابه: كان للفصل الجغرافي الذي أحدثه إنشاء "دولة جبل العلويين" تأثيراً مباشراً على البنية الاقتصادية السورية الناشئة، فعزل حلب عن موانئها التاريخية، وعلى رأسها الإسكندرونة، لم يكن مجرد إجراء إداري بل ضربة مركزة لتقويض دورها كمركز إنتاجي وتجاري محوري في المشرق منذ العهد العثماني.
فقد حُرم الاقتصاد الحلبي من منفذه البحري الطبيعي، مما كبل حركته التصديرية، وحدّ من استقلاليته وفاعليته وقوة ضغطه الاقتصادي".
وبالتالي، فهي لم تفصل فقط الإسكندرونة عن حلب، بل فككت المحور التاريخي، الموصل - حلب - الإسكندرونة، الذي كان شرياناً اقتصادياً واستراتيجياً في المشرق العثماني.
ويذكر خوري: "كان مشروع الدولة العلوية ضربة مزدوجة لتركيا وبريطانيا، لأن فرنسا أرادت تأمين حدودها الشمالية في مواجهة خطر النفوذ التركي المتنامي بقيادة كمال أتاتورك ودولته الجديدة، والإسكندرونة كانت نقطة نزاع بين أنقرة وباريس (لاحقاً سلمتها فرنسا لتركيا عام 1939). عزلها عن سوريا كان يعني تحويلها إلى "منطقة عازلة" لا تخضع لا لأنقرة ولا لدمشق.
بينما بريطانيا كانت تحاول الضغط من خلال محور اقتصادي وسياسي موحد بين العراق وسوريا، ينطلق من البصرة ويمر بالموصل وينتهي بالاسكندرونة عبر حلب، فقامت فرنسا بفصل حلب والإسكندرونة عن الموصل، وحطمت بذلك المشروع البريطاني الرامي إلى إعادة ترتيب المنطقة وفقاً لاستراتيجية بريطانيا التي تهدف إلى محاصرة تركيا شمالاً، وعزل فرنسا عن الواجهة البحرية للمتوسط غرباً، فكانت "الدولة العلوية" أداة فعالة لشلّ المنطقة جيوسياسياً واقتصادياً، وإفشال المناورة البريطانية.
يؤكد المؤرخ السوري عبد الله حنا في كتابه صفحات من تاريخ الكفاح الشعبي في سوريا (1920–1949) أن "الدعوة الفرنسية لإقامة دولة علوية في منطقة الساحل السوري لم تلق تجاوباً لدى غالبية السكان العلويين الذين شعروا أن هذه الدولة ستجعلهم أداة في يد الاستعمار الفرنسي. وقد رفض الوجهاء والمشايخ العلويون، وفي مقدمتهم الشيخ صالح العلي، العرض الفرنسي بإقامة هذه الدولة، معتبرين أن خلاص العلويين لا يكون في العزلة والانفصال، بل في الوحدة الوطنية السورية".
في هذا السياق، تبرز أهمية الأعمال البحثية لجمال باروت، لا سيما تحليله للوثائق الصادرة عن مؤتمر دمشق عام 1919 والتي أكدت على وحدة التراب السوري ورفض أي تفكيك طائفي أو إثني.
ما خرج من ذلك المؤتمر من صياغة دستور أولي، عبّر عن نواة فكرة الدولة السورية الحديثة الجامعة للمكونات والطوائف. وقد التقى هذا الخط الوطني المبكر مع موقف الشيخ صالح العلي، الذي لم يكن يرى في مشروع "دولة العلويين" ملاذاً، بل فخاً لاستدراج العلويين إلى عزلة قاتلة.
صالح العلي كشخصية سورية وطنية.. المقاومة بالتحالف لا بالانعزال
صالح العلي المنحدر من الساحل السوري لم يكن زعيماً دينياً طائفياً كما يُروج اليوم، بل قائداً محلياً وثائراً قاد مقاومة مسلحة ضد فرنسا في الساحل السوري متحدياً الاحتلال، ومتحالفاً مع قوى ورجالات وطنيين سوريين مثل إبراهيم هنانو ويوسف العظمة، وذلك في سبيل إرساء سوريا واحدة.
من بين أقواله الشهيرة خلال اجتماع بدر (15 ديسمبر 1918): "الذي يبحث عن الحماية من العثمانيين عند الفرنسيين، يكون كمن ينتقل من المقلاة إلى النار".
وقبل معركة ميسلون (24 يوليو 1920) أكد: "لو بقي معي عشرة رجال فقط، لما تركت القتال".
في عام 1936 أرسل صالح العلي "تليغرام وحدة" يؤكد فيه انضمام العلويين إلى المشروع الوطني السوري، رافضاً خطاب الانفصال.
كما يُورد عبد الله حنا في المرجع نفسه:
" كان الشيخ صالح العلي مثالاً للقائد الوطني الذي لم تحكمه عصبية طائفية، فقد نسق مع قادة وطنيين من مختلف الطوائف، وقاد حركة مقاومة بالتعاون مع الفلاحين البسطاء والمثقفين، ورفض أن يكون الساحل العلوي قاعدة لدولة طائفية تحت رعاية فرنسا" .
المشاركة في الثورة السورية الكبرى
(1925–1927) أظهرت حضوراً علوياً بارزاً ضمن الجبهة الوطنية الموحدة ضد التقسيم، حسب ما وثقه مايكل بروفانس.
كما يؤكد خوري وبروفانس، أن تقسيم فرنسا استمر حتى ثلاثينيات القرن العشرين، وتمت مقاومته من قبل جميع الطوائف والمكونات السورية بذات البسالة والإصرار، بما فيها العلويون.
فشل اقتصادي بنيوي منع قيام "الدولة العلوية" المزعومة
لم تكن "دولة جبل العلويين" التي أنشأها الانتداب الفرنسي عام 1920 قابلة للحياة اقتصادياً بأي معيار، فقد افتقرت المنطقة إلى الموارد الطبيعية الكافية، وتُركت معزولة جغرافياً عن المراكز الصناعية والتجارية في الداخل السوري.
ويشير الباحث الفرنسي جاك ويولرس (Jacques Weulersse) في دراسته الكلاسيكية Le Pays des Alaouites إلى أن فرنسا نفسها كانت تدرك هشاشة هذا الكيان الوليد، إذ يقول: "العلويون كانوا فقراء، والبلاد التي يسكنونها فقيرة، ولا تملك أدنى مقومات دولة. لقد كان من العبث التفكير في إقامة كيان مستقل هناك" .
ويرجع يولرس أيضاً فشل المشروع إلى غياب البنية التحتية، وضعف التواصل الاقتصادي مع حلب والعمق السوري، ما جعل الدولة المقترحة عبئاً مالياً على باريس، وليست مشروعاً سيادياً قابلاً للاعتماد الذاتي. وهي ذات الأسباب التي ستحول دون قيامها اليوم، مضافا إليها مصالح ونفوذ الدول والقوى الإقليمية الكبرى.
فشل ديموغرافي وسياسي يتكامل مع الفشل الاقتصادي
إن تجاهل تعددية المكونات في المنطقة، والنسب الحقيقية لمن هم الغالبية في الساحل السوري اليوم، يجعل مشروع "الدولة العلوية" ضرباً من الوهم، بل وصفة جاهزة لصراع داخلي مستدام. فالمنطقة لا يقطنها العلويون وحدهم، بل تشاركهم فيها مكونات اجتماعية أساسية مثل السنة، والمسيحيين، والتركمان، والمراشدة، والاسماعيليين، ولكل منهم امتداده الثقافي والسياسي المختلف، وانتماؤه الوطني الذي لا يقبل أن يُختزل في مشروع طائفي مغلق، أو أن تُحتكر السيادة بيد طائفة أخرى أو مكون بعينه، وإن فرض كيان أحادي على فسيفساء سكانية معقدة سيؤدي حتماً إلى صدامات محلية، ويفقد المشروع أي شرعية داخلية أو خارجية، وهو ما يُسقطه عملياً قبل حتى التفكير في تطبيقه، وسوف يضع العلويين في مأزق وجودي.
المشروع الوطني هو الطريق الطويل والخيار الوحيد
اليوم تروج التيارات الطائفية، وبعضها داخل الطائفة العلوية، لفكرة أن سوريا "كذبة" وأن العيش المشترك غير ممكن، فتدعو لإعادة استنساخ مشروع "دولة جبل العلويين" لكن واقع الحال يثبت العكس، فأزمة 2025 أفرزت موجة انتقامية ضد العلويين في الساحل، بما في ذلك اغتيالات وعمليات خطف جماعي، وفق تقارير رويترز وAP والأمم المتحدة، هذه الأحداث تثبت أن أي محاولة انفصال لن تحمي العلويين، بل ستعزلهم بلا حمايات دولية أو وطنية.
الصحفي الباحث أنطونيو بهاردواج في تقريره الشهير عن مستقبل العلويين، يشرح من خلال المعطيات إلى أنهم معرضون اليوم للتهجير والاستهداف، وأن النأي بالطائفة نحو مشروع منفصل يزيد من هشاشتها واستعدادها للتبعية لقوى خارجية مع مزيد من الإفقار والإبادة.
أبحاث EuroProspects تؤكد أن المشروع الانفصالي سيدفع العلويين نحو رعاية أجنبية، مثل إيران وروسيا وتركيا، ودون أن يضمن لهم أي حماية أو فيدرالية داخل سوريا، يعني تبعية كاملة دون أي ضمان أمني.
إن استنساخ تجربة دولة جبل العلويين اليوم ليس مجرد تكرار لفخ قديم، بل مشروع غير قابل للتحقيق أصلاً، ولن يحمي العلويين بل سيفتك بهم ضمن دائرة أضيق وأكثر هشاشة، وإذا كانت بعض الأصوات الطائفية اليوم تحاول إحياء فكرة "دولة جبل العلويين" باعتبارها مخرجاً آمناً للعلويين من تداعيات سقوط نظام بشار الأسد، فإن هذا الطرح لا يصمد أمام أي فحص عقلاني أو تاريخي. فاستنساخ تجربة قامت أصلاً كأداة استعمارية لفصل العلويين عن محيطهم الوطني لن يحميهم، والواقع الاجتماعي والسياسي اليوم أكثر تعقيداً بكثير من عشرينيات القرن الماضي، والمجتمع العلوي نفسه طالما اندمج في مختلف الجغرافيا السورية، في الجيش، والإدارة، والتعليم، والاقتصاد، والمدن الكبرى، إلى درجة تجعل أي مشروع انفصالي غير واقعي بل وخطير.
محاولة تحويل الطائفة إلى كيان سياسي مغلق ومنفصل لا تخدم أبناءها، بل تدخلهم في مواجهة دائمة مع محيطهم، وتقوض فرص المصالحة والانخراط في دولة مواطنة تسع الجميع. إن العلويين كغيرهم من السوريين، دفعوا ثمن الصراع، وتعرضوا للموت والنزوح والانقسام وكل أشكال الاستغلال، ومن مصلحتهم إعادة الارتباط بالمشروع الوطني السوري الذي يحفظ حقوق الأفراد لا الطوائف، ويمنع التكرار المدمر لمشاريع العزلة التي أثبت التاريخ أنها تفشل وتنتج كل أشكال الضعف والزوال.
الشيخ صالح العلي، قبل قرن كامل، فهم هذا المأزق ورفض تحويل الساحل إلى ملاذ مغلق، وأصر أن الأمن لا يأتي من العزلة، بل من الانخراط في دولة تحررية جامعة. وهي اليوم ضرورة أكثر من أي وقت مضى لجميع السوريين.
المراجع وبيبلوغرافيا المادة:
1. Philip S. Khoury, Syria and the French Mandate: The Politics of Arab Nationalism, 1920–1945, Princeton University Press, 1987.
2. Michael Provence, The Great Syrian Revolt and the Rise of Arab Nationalism, University of Texas Press, 2005.
3. عبد الله حنا، صفحات من تاريخ الكفاح الشعبي في سوريا (1920–1949)، دار الأهالي، دمشق، الطبعة الأولى، 1990.
4. جمال باروت، دراسات ومداخلات في بناء الدولة السورية الحديثة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت.
5. تقارير وكالة رويترز، أسوشيتد برس، والأمم المتحدة، 2024–2025.
6. Antonio Behardwaj, The Future of Syria’s Alawites: Fragmentation, Isolation, or Reintegration?, Middle East Report, 2024.
7. EuroProspects Policy Paper, Minorities and Post-Conflict Governance in Syria, 2024.
8. Jacques Weulersse, Le Pays des Alaouites, Paris, 1940