هاشتاغ
بحث

صرخة من روما.. هل تواجه الكنيسة في سوريا الموت؟

30/10/2025

هل-تواجه-الكنيسة-في-سوريا-الموت

شارك المقال

A
A

هاشتاغ- خاص




عبارة مؤلمة ومُثقلة بالدلالات أطلقها المطران "جاك مراد"، رئيس أساقفة حمص وحماة والنبك، مؤخراً حين قال في روما إن "الكنيسة في سوريا تموت". لم يكن هذا توصيفاً عاطفياً أو تعبيراً عن لحظة انفعال ديني، بل تشخيصاً حادّاً لواقع مأساوي يعيشه المسيحيون في سوريا منذ أكثر من عقد، في ظل انهيارٍ سياسي واقتصادي وأمني متواصل، وحالة من الخوف والتهجير والنزيف الديموغرافي غير المسبوق.


جاء كلام المطران مراد، البالغ من العمر 57 عاماً، مؤخراً في مؤتمر عام في قاعة المعهد البابوي الآبائي الأوغسطيني في روما، بإيطاليا خلال مشاركته في تقديم تقرير "الحرية الدينية في العالم لعام 2025"، الذي نظمته مؤسسة " عون الكنيسة المتألمة " (ACN).

نزيف الأعداد وضمور الدور


وفقاً لتقديرات مؤسسة (ACN) ، كان عدد المسيحيين في سوريا عام 2011 نحو 2.1 مليون نسمة، أما اليوم فلا يتجاوز 540 ألفاً، أي أن ثلاثة أرباعهم غادروا البلاد خلال سنوات الحرب. هذا التراجع الديموغرافي لا يُعبّر فقط عن أزمة وجود، بل عن تقلّص دور شريحة سورية هامة تُشكّل جزءاً أساسياً من هوية سوريا التاريخية.


المطران مراد، الذي ذاق بنفسه مرارة الأسر على يد تنظيم داعش عام 2015، اختصر المأساة حين قال إن الكنيسة تواجه "وضعاً سياسياً وقانونياً لا يُطاق"، وإن استمرار الهجرة ليس سببه ضعف الإيمان أو الكنيسة، بل غياب الدولة العادلة والنظام الآمن. "لا يمكن وقف الهجرة"، يقول المطران، "من دون إقامة نموذج سياسي واضح المعالم ونظام أمني صلب".

ما بعد الأسد: وعود لا تُطمئن


جاءت تحذيرات المطران في وقتٍ تعيش فيه سوريا مرحلة انتقالية حساسة بعد سقوط نظام الأسد في أواخر عام 2024، وتسلُّم أحمد الشرع، الجهادي السابق، رئاسة البلاد كمرحلة انتقالية. الشرع أعلن تبرّؤه من ماضيه وأكد احترامه للأقليات وضمان حقوقهم وحمايتهم، إلا أن الواقع الميداني لا يزال بعيداً عن الاستقرار، إذ لم تتوقف حوادث العنف والاغتيال والإنفجارات التي تطال الأقليات، ليس آخرها التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس بدمشق في حزيران 2025، والذي أسفر عن مقتل أكثر من 22 مصلياً.


ذلك التفجير الإرهابي دفع البطريرك يوحنّا العاشر يازجي إلى تحميل السلطة الجديدة المسؤولية عما جرى، موجها رسالة علنية إلى الرئيس الشرع قال فيها: "تعازيكم لا تكفي". كانت هذه الجملة، مثل نداء المطران مراد، تعبيراً عن انكسار الثقة بين الكنيسة والسلطة، وعن خوفٍ دفينٍ من أن تكون "المرحلة الجديدة" مجرد إعادة إنتاجٍ للفوضى تحت شعارات التغيير.

العنف الطائفي... شبح يسيطر على المشهد


لم تكن حادثة تفجير كنسية مار إلياس وحيدة، فقد شهد وادي النصارى في ريف حمص الغربي، أحداث عنف استهدفت أبناء الطائفة المسيحية، حيث قُتل شابان على يد ملثمين مجهولين، فجّرت احتجاجات وغضباً واسعاً في الأوساط المسيحية، وسط اتهامات للحكومة بالتقصير في حماية مناطقهم من العنف الطائفي. وقد وصف حزب الاتحاد السرياني الجريمة بأنها "محاولة لزرع الفتنة والتحريض على العنف الطائفي"، فيما طالب المطران باسيليوس منصور الدولة بـ "محاكمة علنية" للمتورطين حتى تسود "عدالة السلام لا عدالة الانتقام".


هذه الأحداث المتفرقة، إلى جانب ممارسات أخرى شهدتها شوارع أحياء مدينة دمشق ذات الغالبية المسيحية من دعوات دينية وغيرها، تزرع في وعي المسيحيين السوريين شعوراً متزايداً بالعزلة والخوف وتدفعهم إلى الهجرة، في وقتٍ تعيش فيه الأقليات السورية عموماً أزمة ثقة عميقة مع السلطة.

"الكنيسة تموت"... أم تُبعث من جديد؟


لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل تموت الكنيسة فعلاً؟ الموت هنا لا يعني الفناء المادي للمباني والرموز، بل تآكل الدور الاجتماعي والثقافي والسياسي الذي لعبته الكنيسة السورية على مدى قرون. فحين تفقد الكنيسة أبناءها، وتُهاجر الطاقات الشابة، ويتراجع صوتها في الفضاء العام، تصبح أشبه بجسدٍ يواصل التنفس بلا روح.


ومع ذلك، ليست الصورة كلها قاتمة. فقد حملت زيارة الرئيس الشرع إلى المقر البطريركي للروم الأرثوذكس في دمشق القديمة في 26 تشرين الأول الجاري رمزيةً كبيرة وأعطت أملاً جديداً بأن المسيحية في سوريا ستبقى جزءاً أصيلاً من الشعب السوري ولا يمكن لأحد أن يقتلها مهما تلبدت الأجواء ومهما تزايدت الضغوط.


فالزيارة بما حملته من لقاءات وتصريحات تشكل مدخلاً جديداً لضمان بقاء الكنيسة في سوريا كما عهدها السوريون، مكاناً للسلام والأمان والعيش المشترك، ورمزاً للعيش المشترك الذي تكرس عبر القرون. ولم يكن إطلاع البطريرك يازجي للرئيس الشرع على "العهدة النبوية" التي تعهّدت بحماية المسيحيين وكنائسهم، وتسليمه نسخة منها سوى تذكير بتاريخ أصيل من التآلف بين المسيحيين والمسلمين منذ بداية الرسالة المحمدية.


رد الرئيس الشرع على البطريرك برسالة رمزية كتبها في سجل الزوار، بأن "دمشق لهي أول عيش مشترك عرفته البشرية"، كانت بمثابة عهد جديد من السلطة الانتقالية بإعادة بناء الثقة مع المكونات الدينية السورية وطمأنة الأقليات على المستقبل المشترك.

الرسائل وحدها لا تكفي


المسيحيون في سوريا لم يكونوا يوماً جاليةً معزولة، بل جزءاً أصيلًا من النسيج الوطني. تاريخهم الممتد من أنطاكية إلى وادي النصارى مروراً بدمشق وحلب، هو تاريخ مشاركةٍ في الثقافة والطب والتعليم والسياسة بحسب معظم التصريحات والعظات التي يتكلم بها أصحاب النيافة والبطاركة. لذلك فإن تراجع وجودهم لا يشكل ضعفاً للكنيسة وحدها، بل تآكلاً للهوية السورية الجامعة وقوتها الأخلاقية المبدعة.


اليوم، لا تطالب الكنيسة بامتيازاتٍ أو محاصصةٍ سياسية كما يوضح البطريرك يازجي، بل تطالب بـ "حماية وأمن لجميع السوريين" وبأن يكون المسيحيون شركاء في "عملية البناء الوطني". إنها دعوة تتجاوز الطائفة إلى الوطن، وتؤكد أن الكنيسة ترى خلاصها في الدولة لا في العزلة وأن الضمانات ليست في الرسائل والبيانات بل بضمانات دستورية تترجم إلى أفعال على الأرض السورية.

تحدي البقاء والموت


لكن البقاء المسيحي في سوريا يحتاج أكثر من النوايا الحسنة. فالهجرة مستمرة، والاقتصاد منهار، والسلطة الانتقالية لم تُثبت بعد قدرتها على ضبط الأمن أو محاسبة الجناة. من دون عدالةٍ حقيقية ومصالحةٍ وطنية، لن تتوقف دوامة النزيف. لذلك قال المطران مراد بوضوح: "لا يمكن وقف موجة الهجرة إلا بإقامة نظام سياسي محدد المعالم ونظام أمني قوي".


غير أن الكنيسة والسلطة اليوم تحاولان إعادة صياغة العلاقة في ظل هذه الفوضى، اعترافاً بالدور والمسؤولية لكليهما في كتابة مستقبل سوريا التعددي الذي تشكل فيه الطوائف والأديان والأقليات عنصر إثراء لهذا البلد المشرقي الذي عرف عبر تاريخه كمثال للتعايش بين الأديان.


قد يصح القول أن الكنيسة في سوريا "تموت" فعلاً من حيث الأرقام والمظاهر، لكنها أيضاً تحاول أن تولد من جديد في ضمير مجتمعٍ يبحث عن معنى البقاء. فكل مرة يرنّ فيها جرس كنيسةٍ في حلب أو حمص أو دمشق، وسط الخوف المكبوت، فإن صوته لا يعلن نهاية الوجود المسيحي، بل يذكّر الجميع بأن الحياة لا تُهزم بسهولة.


المطران مراد قالها بصوتٍ هادئ: لا تتركوا سوريا تفقد آخر ما تبقّى من تنوّعها وإنسانيتها، لأن موت الكنيسة في سوريا، إن حدث، لن يكون موت جماعةٍ دينية فحسب، بل موت ذاكرةٍ روحية وثقافية كانت وما زالت شاهدةً على أول العيش المشترك في تاريخ البشرية.

التعليقات

يستخدم موقع هاشتاغ والمنصات التابعة له ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك على الموقع، وتقديم محتوى مخصص، وتحليل استخدام الموقع. هل توافق على استخدامنا للملفات لهذه الأغراض؟ يمكنك رفض ذلك، وسنستخدم فقط الملفات الضرورية لتشغيل الموقع.

هاشتاغ بيحكي عنك

مؤسسة إعلامية مستقلة تعنى في مناصرة المواطنين في المنطقة العربية وتمكينهم والدفاع عنهم ونقل أخبارهم وفق المواثيق الأممية والقواعد المهنية

أسّسها محمد محمود هرشو

محمد محمود هرشو

جميع الحقوق محفوظة - Hashtag هاشتاغ © 2015 - 2025