توصّل فريق بحثي من مركز تنظيم الجينوم في برشلونة (CRG) ،في اكتشاف علمي قد يغيّر قواعد اللعبة في معركة الإنسان ضد السرطان، إلى أن الخلايا السرطانية تطلق "دفقات من الطاقة" حين تتعرض لضغوط ميكانيكية داخل الجسم، وهذا يمنحها قدرة مدهشة على النجاة والإصلاح الذاتي، حتى في أكثر البيئات قسوة.
تكشف الدراسة، للمرة الأولى عن آلية حيوية معقدة تتحرك فيها الميتوكوندريا -وحدة إنتاج الطاقة في الخلية- نحو نواة الخلية السرطانية، لتفرغ كميات إضافية من جزيئات أدينوسين ثلاثي الفوسفات (ATP)، وهي تُعرف بـ"عملة الطاقة" على المستوى الجزيئي.
كيف تنجو الخلايا السرطانية من الانضغاط؟
باستخدام ميكروسكوب متقدم قادر على ضغط الخلية حتى لا يتجاوز عرضها 3 ميكرونات (أي جزء من 13 من سمك الشعرة البشرية)، لاحظ الباحثون أن الميتوكوندريا تزحف نحو سطح النواة فور تعرض الخلية للضغط، وتطلق في غضون ثوانٍ دفعات متكررة من الطاقة.
وقالت الباحثة سارة سيدلشي، المشاركة في إعداد الدراسة، لموقع "SciTech Daily": "الميتوكوندريا ليست مجرد بطاريات ثابتة داخل الخلية؛ بل وحدات ذكية تتحرك عند استدعائها لمواجهة المواقف الطارئة، مثل الضغوط الخارجية الشديدة".
وقد رُصدت هذه الظاهرة في 84% من الخلايا السرطانية المضغوطة مقارنة بالخلايا العادية. وسمّى العلماء هذه التراكيب الجديدة "الميتوكوندريا المرتبطة بالنواة الخلوية".
ومضات ضوء تكشف سرّ الحياة بتأثير الضغط
للتحقق من هذه الفرضية، استخدم الفريق مستشعرات فلورية مضيئة ترصد لحظات التفاعل بين الطاقة المنبعثة والنواة، فلاحظوا زيادة في الومضات بنسبة 60% في غضون ثلاث ثوانٍ فقط بعد تعريض الخلايا للضغط.
وفسّر الطبيب فابيو بيزانو ذلك بقوله: "هذه الومضات تمثل مؤشراً واضحاً على أن الخلايا تعيد برمجة عمليات الأيض لتتأقلم مع بيئة قاسية".
وأظهرت تجارب لاحقة أن تلك الدفقات السريعة من الطاقة ضرورية لإصلاح تلف الحمض النووي (DNA) الناتج عن الانضغاط.
ومن دونها، تتوقف الخلايا السرطانية عن الانقسام والنمو، وهذا يفتح باباً جديداً لاستراتيجيات علاجية تستهدف حرمانها من هذه الطاقة المنقذة.
الأكتين.. "هيكل خفي" يمنح السرطان القوة
اكتشف العلماء أن هذه الظاهرة لا تحدث عشوائيًا؛ بل تعتمد على شبكة دقيقة من خيوط الأكتين البروتينية -وهي المادة نفسها التي تسمح بانقباض العضلات- إذ إنها تشكّل حول النواة ما يشبه القفص، لتثبيت الميتوكوندريا في موضعها في أثناء إطلاق الطاقة.
وعندما استخدم الباحثون مادة "لاترونسولين" التي تُذيب خيوط الأكتين، انهارت هذه البنية، وتوقفت "دفقات الطاقة". هذا يعني أن استهداف شبكات الأكتين قد يمنع انتشار السرطان من دون الحاجة إلى تسميم الميتوكوندريا نفسها.
وقالت الدكتورة فيرينا روبريشت، المشاركة في الفريق: "الاستجابة الميكانيكية للضغوط داخل الخلايا السرطانية تمثل نقطة ضعف جديدة لم يستغلها العلم بعد، وقد تكون مدخلاً لعلاجات غير تقليدية".
أفق جديد في فهم الحياة الخلوية
على الرغم من أن الدراسة تركز على الخلايا السرطانية، فإن نتائجها تمتد لتشمل الخلايا الحية عامة؛ إذ لوحظت ظواهر مشابهة في الخلايا المناعية داخل العقد اللمفاوية والخلايا الجنينية في أثناء تشكل الأجنة.
وتختتم الباحثة سارة سيدلشي قائلة: "كل خلية حية عندما تُضغَط، تُطلق دفقات من الطاقة لتحمي جينومها. هذه الظاهرة قد تغيّر جذريًا فهمنا طريقة بقاء الحياة نفسها بتأثير الضغط".


