تُظهر نتائج علمية حديثة أن العمل المفرط لا يستنزف الجسد فحسب؛ بل يغيّر بنية الدماغ نفسها، مؤثراً في مراكز التفكير والذاكرة واتخاذ القرار، في تطور علمي يسلّط الضوء على المخاطر العصبية للإرهاق المهني.
فبحسب تقرير نشرته صحيفة "إيفننج ستاندرد" Evening Standard البريطانية فإن باحثين من جامعة "يونسي" الكورية الجنوبية اكتشفوا أن العمل ساعات طويلة -تصل إلى 52 ساعة أسبوعياً أو أكثر- يرتبط بتغيرات هيكلية في مناطق الدماغ المسؤولة عن الوظائف التنفيذية والتنظيم العاطفي، وهي المناطق التي تدعم التفكير المنطقي، حل المشكلات، والتفاعل الاجتماعي.
تغيرات هيكلية مقلقة في الدماغ
اعتمد الباحثون في دراستهم المنشورة في مجلة الطب المهني والبيئي (Occupational and Environmental Medicine) على بيانات موسّعة من دراسة بعيدة الأمد عن صحة العاملين، واستخدموا التصوير بالرنين المغناطيسي لرصد التغيرات في بنية الدماغ عند 110 من العاملين في القطاع الصحي، معظمهم من الأطباء.
وتبيّن أن 32 شخصاً ممن يعملون لساعات مفرطة أسبوعياً أظهروا زيادة بنسبة 19% في حجم التليف الجبهي الأوسط والذيل الأيسر مقارنة بغيرهم من أصحاب الدوام الطبيعي. هذه المناطق مسؤولة عن التركيز، التنظيم، واتخاذ القرار، وهذا يعني أن الإرهاق المزمن قد يضعف الوظائف التنفيذية للدماغ على المدى البعيد.
كما لاحظ الفريق تغيّرات في مناطق أخرى مسؤولة عن الانتباه، التخطيط، المعالجة العاطفية، والوعي الذاتي، وهذا يعزز الفرضية بأن الإفراط في العمل لا يؤثر فقط في الحالة النفسية؛ بل يمتد إلى تعديل فعلي في البنية العصبية للدماغ.
خطر متزايد على الصحة النفسية
خلص الباحثون إلى أن النتائج تمثل دليلاً أولياً على وجود ارتباط مباشر بين إرهاق العمل والتغيرات الدماغية.
وقالوا إن "هذه التغيرات العصبية تؤكد الحاجة إلى فهم أعمق للآثار المعرفية والعاطفية بعيدة المدى لساعات العمل الطويلة".
وتشير النتائج إلى أن العقل المُجهد باستمرار يصبح أقل قدرة على التنظيم العاطفي وحل المشكلات، وهذا قد يفسّر ارتفاع نسب القلق والاكتئاب والاحتراق المهني بين العاملين في بيئات ضغط مرتفع.
تحذيرات دولية.. وباء ساعات العمل الطويلة
من جانبها، أكدت روث ويلكينسون، رئيسة قسم السياسات في مؤسسة السلامة والصحة المهنية البريطانية، أن نتائج الدراسة تنسجم مع تقارير منظمة الصحة العالمية (WHO) ومنظمة العمل الدولية (ILO) التي وصفت ظاهرة ساعات العمل الطويلة بأنها "وباء عالمي متنامٍ".
وأضافت ويلكينسون: "تحليل عالمي مشترك بين المنظمتين أظهر أن العمل ساعات طويلة مسؤول عن نحو ثلث العبء المرضي المهني العالمي، وأن ثقافة العمل المفرط أصبحت متغلغلة في تفاصيل الحياة اليومية، حتى من دون أن تُذكر في العقود الوظيفية".
دعوة إلى سياسات جديدة لحماية العاملين
يشير الخبراء إلى ضرورة أن تتبنى الحكومات وأرباب العمل سياسات صارمة للحد من العمل المفرط، مثل تحديد سقف الساعات الأسبوعية، وضمان فترات راحة كافية، وتشجيع ثقافة التوازن بين الحياة المهنية والشخصية.
كما يدعون إلى عد الإرهاق العصبي الناتج عن العمل مشكلة صحية مهنية حقيقية، تستحق المتابعة والعلاج شأنها شأن الإصابات الجسدية في بيئة العمل.


