تنبض قلوبنا أكثر من سبعين مرة، في كل دقيقة، وتضخّ ما يقارب 5 ليترات من الدم عبر شبكة هائلة من الأوعية التي تُبقي خلايانا على قيد الحياة.
لكنّ هذا السائل الأحمر الذي يمنحنا الحياة، قد يتحوّل أحيانًا إلى خطرٍ صامتٍ يسلبها خطر تخثّر الدم أو الجلطة الدموية.
بحسب مراكز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC)، تتسبّب الجلطات الدموية في وفاة ما بين 60 و100 ألف شخص سنويًا في الولايات المتحدة فقط، بينما تُقدَّر الإصابات الجديدة بأكثر من 900 ألف حالة سنويًا.
يعني هذا أن كل دقيقة تقريبًا تُسجّل إصابة جديدة بجلطة يمكن الوقاية منها لو تمّ اكتشافها في الوقت المناسب.
ما تخثّر الدم؟
تخثّر الدم عملية فيزيولوجية طبيعية تهدف إلى إيقاف النزيف عند حدوث جرح أو إصابة. لكن الخطورة تبدأ عندما تتكوّن خثرة داخل الأوعية من دون إصابة حقيقية، فتسدّ مجرى الدم وتمنعه من الوصول إلى أعضاء حيوية مثل الرئتين أو الدماغ.
هذا ما يطلق عليه الأطباء اسم الجلطة الوريدية العميقة (DVT)، والتي قد تؤدي إلى انسداد رئوي (PE) إذا انتقلت الخثرة عبر مجرى الدم إلى الرئتين.
يشرح الدكتور سامي الحداد، اختصاصي أمراض الأوعية الدموية في مستشفى الملك فهد بالرياض، قائلاً: "الجلطة تشبه قنبلة موقوتة. قد تبدأ في أوردة الساق من دون أن يشعر المريض بشيء، ثم تنتقل فجأة إلى الرئتين مسببة انسدادًا حادًا قد يودي بالحياة في دقائق''.
من الأكثر عرضة؟
تتعدد الأسباب والعوامل التي تزيد احتمال الإصابة، منها ما يمكن التحكم فيه ومنها ما لا يمكن تغييره.
العوامل الشائعة تشمل:
- الجلوس أو الاستلقاء مدداً طويلة (السفر الطويل، الجلوس أمام الكمبيوتر لساعات).
- العمليات الجراحية، خصوصًا جراحات العظام والولادة القيصرية.
- السمنة ونقص الحركة.
- استخدام موانع الحمل الهرمونية أو العلاج الهرموني بالإستروجين.
- التدخين.
- السرطان وعلاجاته الكيماوية.
- التاريخ العائلي للإصابة بجلطات.
- فترات الحمل وما بعد الولادة.
وقد وجدت دراسة نشرتها مجلة "The Lancet Medical Journal" عام 2023 أن خطر الإصابة بالجلطات ازداد ازدياداً ملحوظاً عند مرضى كوفيد-19، خصوصًا من احتاجوا إلى العناية المركزة، بسبب تفاعل معقّد بين الالتهاب المفرط ونشاط عوامل التجلّط.
الأعراض الصامتة.. علامات يجب عدم تجاهلها
أخطر ما في الجلطة هو أنها قد لا تعلن نفسها بوضوح. لكن هناك إشارات تستدعي الانتباه:
- ألم أو ثقل في الساق، خصوصًا في جهة واحدة.
- تورّم أو احمرار في الطرف المصاب.
- دفء في الجلد فوق المنطقة المؤلمة.
- ضيق في التنفّس، ألم حاد في الصدر، تسارع نبضات القلب — وهي علامات قد تشير إلى انسداد رئوي.
ويؤكد الأطباء أن التشخيص المبكر هو الفرق بين النجاة والخطر؛ إذ يمكن تصوير الأوردة بالموجات فوق الصوتية لتأكيد وجود الخثرة وعلاجها قبل تفاقمها.
ثورة الأدوية الحديثة
حتى وقت قريب، كان العلاج يعتمد أساسًا على أدوية مثل الوارفارين أو الهيبارين، التي تتطلب مراقبة دقيقة لنسبة تخثّر الدم وتداخلات دوائية معقدة.
لكن التطوّر العلمي أتاح ظهور جيل جديد من الأدوية يُعرف باسم المضادات الفموية المباشرة (DOACs)، والتي تُعدّ اليوم خيارًا مفضّلًا لمعظم المرضى.
تقول منظمة" CDC" إن هذه الأدوية ساهمت في خفض معدلات تكرار الجلطات بنسبة تفوق 30% مقارنة بالأساليب التقليدية، مع آثار جانبية أقل نسبيًا. كما يمكن استخدامها من دون الحاجة إلى مراقبة المختبرات الدورية، وهذا يجعلها أكثر سهولة وملاءمة للحياة اليومية.
السلاح الأهم
الوقاية من الجلطات تبدأ بخطوات بسيطة لكنها حيوية:
- الحركة المنتظمة: تحريك الساقين كل ساعة في أثناء السفر أو الجلوس الطويل.
- الإكثار من شرب الماء لتجنّب الجفاف.
- الحفاظ على وزن صحي وممارسة النشاط البدني بانتظام.
- التوقف عن التدخين.
- استشارة الطبيب قبل استخدام أي أدوية هرمونية أو في أثناء الحمل وبعد الولادة.
كما يُنصح الأشخاص الذين خضعوا لجراحة كبرى أو يعانون أمراضاً مزمنة بارتداء جوارب ضاغطة طبية أو تناول جرعات وقائية من مضادات التخثّر بإشراف الطبيب.
التوعية.. مفتاح النجاة
يشير الخبراء إلى أن نحو نصف حالات الجلطات تحدث بعد الاستشفاء أو الجراحة، وهذا يجعل التثقيف الطبي والتوعية المجتمعية ضرورة لا رفاهية.
ويختم الدكتور الحداد قائلاً: "معرفة العلامات المبكرة هي أفضل وسيلة للوقاية. كل دقيقة تأخير في التشخيص قد تغيّر مسار الحياة تماماً".


