أثار المرسومان التشريعيان الصادران مؤخراً عن رئاسة الجمهورية في سوريا والمتعلقان بإنشاء "هيئة العدالة الانتقالية" و"هيئة شؤون المفقودين"، جدلاً واسعاً في الأوساط الحقوقية والمدنية.
انتقادات كثيرة وُجهت إلى المرسومين، أبرزها أن إصدارهما من جهة رئاسية وليس عبر قانون صادر عن مجلس تشريعي يُضعف من شرعيتهما، ويمنح السلطة التنفيذية صلاحيات مطلقة في تعيين رؤساء وأعضاء هذه الهيئات دون معايير واضحة أو إشراك حقيقي لمنظمات المجتمع المدني.
في هذا السياق، قال الأستاذ داني البعاج، نائب الرئيس التنفيذي لشؤون المناصرة الدولية في المنتدى السوري، إن الاعتراضات التي أُثيرت حول مرسوم "العدالة الانتقالية" محقة، لأن العدالة الانتقالية لا يجب أن تنطلق من طرف واحد في الصراع، بل يجب أن تشمل جميع الجهات التي ارتكبت انتهاكات جسيمة خلال سنوات الحرب.
وأضاف البعاج خلال حديثه لاستديو الأخبار في "هاشتاغ" أنّ كثيرين شعروا أن المرسوم يستهدف النظام وحده، متجاهلاً الانتهاكات التي قد تكون ارتكبتها أطراف أخرى، ما يهدد بفقدان الثقة في العملية برمتها.
رغم ذلك، رأى البعاج أنّ إصدار المرسوم يُعدّ خطوة أولى مهمة، لكنه أشار إلى أن المرسوم أغفل عنصراً بالغ الأهمية، وهو وضع مسوّدة قانون وطني شامل للعدالة الانتقالية. "لا يمكن التقدم في هذا المسار دون وجود نص قانوني واضح يحدد طبيعة المرحلة وآلياتها"، قال البعاج، معرباً عن أمله بأن تتضمن التعليمات التنفيذية لاحقاً تكليف الهيئة بإعداد مسوّدة قانون تُعرض لاحقاً على المجلس التشريعي المرتقب.
وفي ما يخصّ هيئة المفقودين، أوضح البعاج أنّ هذه الهيئة تتقاطع في أهدافها مع مؤسسة دولية تم إنشاؤها بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة للكشف عن مصير المفقودين في سوريا، مشيراً إلى أنه يفضّل استخدام تعبير "المخفيين قسراً"، لأن التعريف يشمل حالات فقدان متعددة، بعضها لا يرتبط بالعمل السياسي أو الصراع، مثل الفقدان خلال اللجوء أو الهجرة.
وأكد أنّ تشكيل هذه الهيئة الوطنية خطوة إيجابية لكنها غير كافية، مشيراً إلى ضرورة أن يكون هناك قانون خاص ينظم عملها ويحفظ الخصوصية، ويدير البيانات الحساسة مثل عينات الحمض النووي. "أين ستحفظ هذه العينات؟ من له الحق بالوصول إليها؟ كم من الوقت ستُحتفظ بها؟ وهل يمكن استخدامها لاحقاً لأغراض أخرى؟ هذه أسئلة بحاجة إلى إجابات قانونية واضحة"، بحسب تعبيره.
ونوّه البعاج إلى أن المنتدى السوري كان قد نظم قبل أيام ورشة عمل في كلية الحقوق بجامعة دمشق حول العدالة الانتقالية، داعياً إلى إشراك الكليات القانونية السورية في هذا المسار بهدف صياغة أفضل القوانين الممكنة، قائلاً: "القصة ما زالت في بدايتها، لكن حجم المأساة يفرض علينا أن نبدأ الآن، لأن الانتظار يعني اتساع الفجوة بين الضحايا والعدالة".
وفي رده على الانتقادات بأن المرسوم يتعامل مع نوع واحد من الضحايا، أشار البعاج إلى أن الانتقادات الحقوقية محقة، موضحاً أن العدالة الانتقالية يجب أن تشمل جميع الانتهاكات الجسيمة بصرف النظر عن مرتكبها، سواء كانت السلطة أو الفصائل المسلحة أو أي جهة أخرى.
وأضاف أنّ العدالة الانتقالية لا تقتصر على المحاسبة القضائية، بل تشمل آليات متعددة مثل المصالحة الشعبية وكشف الحقيقة وجبر الضرر، لافتاً إلى أن القوانين السورية الحالية غير كافية لمعالجة مثل هذه الانتهاكات، ومشيراً إلى أنّ القانون الجنائي الدولي أكثر وضوحاً في هذا السياق، خاصة من حيث تحميل المسؤولين السياسيين والعسكريين مسؤولية انتهاكات مرؤوسيهم.
أما فيما يخصّ هيئة المفقودين، فأكد البعاج أنها ستواجه مساراً طويلاً ومعقداً، وقد يمتد العمل لكشف مصير جميع المفقودين في سوريا إلى أكثر من ثلاثين عاماً. ولفت إلى أن عمليات فتح المقابر الجماعية، على سبيل المثال، تتطلب خبراء آثار وجيولوجيا وصور أقمار صناعية وأطباء شرعيين، وكل ذلك يستوجب تدريب كوادر وطنية مؤهلة، وتوفير تمويل مستقر، وتشريعات واضحة تنظم العمل وتحمي حقوق الضحايا وذويهم.
وختم البعاج حديثه بالتشديد على أن مسار العدالة الانتقالية لا يمكن أن يكون انتقائياً أو موجهاً لطرف واحد، مضيفاً: "نأمل أن تتعاطى الحكومة بجدية مع هذا الملف، وأن تدرك أنّ الانتقال السياسي الحقيقي يبدأ من كشف الحقيقة وإنصاف جميع الضحايا دون تمييز".