اعتبر الباحث الاقتصادي زياد عربش أن رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا يعد حدثاً عالمياً أعاد إيقاظ آمال ملايين السوريين في عيش حياة طبيعية، لكنه لا يمثل في حد ذاته نهاية المطاف، وإنما خطوة ينبغي استثمارها بإدارة مدروسة ووضع خطة اقتصادية متكاملة، بعيداً عن الخطابات العاطفية واقتصاديات فيسبوك.
وأكد عربش، خلال حديثه لاستديو الأخبار في "هاشتاغ"، أن الأثر الفعلي لرفع العقوبات بدأ يلمسه المواطنون منذ أيام، على صعيد سعر الصرف، وعودة الاتصالات مع المستثمرين في الخليج وأوروبا، واستعادة سوريا لمكانتها المالية في النظام النقدي الدولي عبر الانضمام إلى شبكة "سويفت" المصرفية الإقليمية.
وأشار عربش إلى أن أولى نتائج رفع العقوبات كانت انعكاسها السريع على سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار، ومع تراجع المخاطر السياسية، بدأت الاتصالات الحميمية مع المستثمرين المغتربين، إضافة إلى رجال أعمال من أوروبا، لتقييم فرص السوق السورية.
وقال: "النقطة الجوهريّة الأهم هي دخول سوريا إلى النظام النقدي الدولي، ليس فقط عبر كود "سويفت" لرفع العقوبات الأمريكية عن النظام المصرفي السوري، بل بسبب تمتع الاتحاد الأوروبي –المكوَّن من 28 دولة– بمنظومة تحويلات مصرفية إقليمية خاصة، كانت تتيح لسوريا قبل النزاع تصدير 70% إلى 90% من منتجاتها إليه.
ولفت عربش إلى أن "رفع العقوبات الأميركية يستغرق شهوراً، وقد تطول إلى سنوات، بسبب النزاع السياسي داخل الإدارة الأمريكية واختلاف تقييم أركانها. لكن الاتحاد الأوروبي قرر إلغاء العقوبات عملياً وتنفيذياً دون انتظار، وقد تظهر آثار ذلك على المدى المتوسط والبعيد بسرعة أكبر."
وأضاف أن انعكاسات الخطوة بدأت بالاتصالات مع شركات الطيران والمغتربين وتجارة الشحن، متوقعاً أن تتفعل خلال أيام أو أسابيع قليلة.
وأوضح أن الأهم في هذه المرحلة هو الاستثمار، وأن "السوق الأوروبية مهمة لسوريا، لا لأننا نحتاج رأس مال فقط، وإنما لأننا بحاجة إلى خبرات تشغِّل تلك الأموال، وتوفر اللوجستيات والتجهيزات اللازمة."
وأضاف: "موضوع رأس المال غالباً ما يُساء فهمه؛ نحن لا نريد أموالاً تُركَن في البنوك، بل نريد أشخاصاً قادرين على العمل والتشغيل. المطلوب من الإدارة الاقتصادية السورية وضع خطة متكاملة، فهي غائبة حتى الآن."
وفي ما يتعلق بدور الحكومة والجهات الرقابية في هذه المرحلة، شدد عربش على أهمية تطوير عمل الجهاز المركزي للرقابة المالية، وديوان المحاسبات، وهيئات الرقابة والتفتيش، لضمان الشفافية والنزاهة في إنفاق الاستثمارات المشتركة بين سوريين وخليجيين أو عرب وإظهار مؤشرات الأداء أمام المانحين والشركاء.
وقال: "لابد أن تكون هناك آلية تدقيق داخلي (Internal Audit) لمعرفة كيف تُنفَّق الأموال في المشاريع؛ هذا المفهوم غائب تماماً اليوم."
وأضاف: "غياب الشفافية والتخطيط يجعلنا نقوم بصفقات عشوائية لا تؤدي إلى بناء اقتصادي. أصبحنا منذ أربعة أو خمسة أشهر من دون مسار واضح؛ وهذه التراكمات لا تُحل في ستة أشهر. علينا إصدار قانون النزاهة المالية، ولو جمعنا ثلاثة أو أربعة قانونيين لصياغته سريعاً، لأنه سيمنع الفساد من البداية."
ورأى عربش أن الخطوة الأولى في تفعيل رفع العقوبات يجب أن تكون عبر تعزيز دور المصرف المركزي في ضبط النقد، وضبط السيولة في السوق عن طريق شركات الصرافة والحوالات، مشيراً إلى أن "البنك المركزي اليوم لا يسيطر سوى على 10% من السيولة النقدية، ورفع الفائدة خطوة إيجابية لجذب الأموال إلى القنوات المرخصة."
وأضاف: "إذا لم نبنِ الثقة في سياساتنا النقدية، فلن نتمكّن من خلق بيئة جاذبة للاستثمار، سواء أكان سورياً مغترباً أو أجنبياً، ومن دون ذلك ستظل الأموال مرمية في الخارج."
وحذر عربش من البدء الفوري بطباعة عملة سورية جديدة قبل توفر استقرار نسبي في الاقتصاد الوطني، قائلاً: "طباعة عملة جديدة هي قرار سيادي مهم، لكن لا يمكن المرور إليه قبل أن يكون لدينا نظام نقدي قوي وقطاع مصرفي موثوق. طباعة فئات فئتين خاليتين من الصفر—مثلاً 10 آلاف أو 25 ألف ليرة—أسرع وأكثر فاعلية من طباعة عملة جديدة كاملة وحذف أصفار، لأنه في كل التجارب العالمية حذف الأصفار رافقه تضخم كبير."
وأوضح أنه بينما يعتقد بعض الاقتصاديين أن طباعة عملة جديدة قادرة على ضخ سيولة في الأسواق، فإن "المفتاح هنا هو الثقة—إذا رأى المستثمرون المحليون والدوليون أن لدينا نظاماً نقدياً قوياً، وأن السيولة تتحول عبر القنوات الرسمية، فإنهم سيضخون أموالهم في الداخل."
وأضاف أن "هناك جهات وأفراداً يسيطرون على جزء كبير من السيولة في السوق، وهم من أثّروا سلباً في الاستقرار بسعر الصرف، ونجاح البنك المركزي في استعادة السيطرة على تلك السيولة هو ما سيعطي المجال لعودة الأمان المصرفي."
وعن توجهات الاستثمارات الخارجية، قال عربش إن "السوريين المغتربين أو الأجانب لا يرغبون في ضخ رأس مال فقط، بل يبحثون عن بيئة استثمارية واضحة، وقوانين تشريعية مضبوطة، وإجراءات حكومية مبسّطة."
وأضاف: "لدينا اليوم 990 قانوناً اقتصادياً—قانون التجارة، وقانون الاستثمار، وعشرات القوانين المتضاربة والمتخالفة. كيف يتفهم المستثمر الأجنبي أو السوري المقيم بالخارج هذه الفوضى؟"
وأكد أن الحل ليس في الانتظار لسنوات لإصلاح البيئة التشريعية، بل في "وضع إجراءات واضحة وسريعة: مثلاً، أن تسمح الحكومة لأي مستثمر سعودي أو لبناني أو تركي بإنشاء منطقة اقتصادية خاصة بقوانين خاصة مباشرة، دون الحاجة لسن تشريعات تمتد إلى خمس سنوات. فرفع العقوبات الأميركية يمتد 180 يوماً فقط، ونحن لا نملك رفاهية انتظار ذلك."
وتطرّق عربش كذلك إلى أهمية استغلال الموارد البشرية السورية المغتربة، قائلاً: "لدينا 600–700 ألف سوري في أوروبا منذ 15 عاماً، أبدعوا في مختلف المجالات. بدلاً من البحث عن رأس المال فقط، يجب أن نجلب أفكار مشاريع وخبرات هؤلاء. التجربة الأهم ليست في المال بل في الموارد البشرية والمشاريع التقنية."
أما عن دور التعاون الإقليمي والدولي، فأوضح أن "السعودية لديها خبرة 50 عاماً في مكافحة التطرف وبناء مشاريع إبداعية؛ عليها أن تعتبر سوريا شريكاً استراتيجياً، لا أن تستمر في اللعب على التناقضات السياسية. نحن اليوم أمام فرصة تاريخية تتطلب تضافر الجهود مع أميركا وأوروبا والخليج وروسيا وإيران، في مشاريع مثل الحزام والطريق أو مشاريع ربط الموانئ السورية بالأسواق العالمية، لتعزيز دور سورية في التجارة البينية والإقليمية."
وختم عربش بالتحذير من أن "السوريين إن لم يلتقطوا هذه الفرصة الآن، فإن الأجيال القادمة ستسألنا: ألم تُمنحوا هذه الفرصة التاريخية؟"
ودعا إلى التعاون لإنشاء خريطة طريق اقتصادية واضحة خلال الأشهر الستة المقبلة، تشمل تفعيل القوانين النافذة وتطبيق الحوكمة الإلكترونية وتبسيط إجراءات تأسيس المشاريع، مع التركيز على "إعمار البنية التحتية، وتأهيل اليد العاملة، وإخراج القوانين اللازمة بسرعة."