هاشتاغ - خاص
حين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من قاعة الكنيست الإسرائيلي أن "الشرق الأوسط يستيقظ على فجر تاريخي جديد"، تعالت التصفيقات وكأن صفحة الحرب في المنطقة طويت إلى الأبد.
وفي غزة المنكوبة، تعالت الهتافات احتفاءً بصمت المدافع وخروج المعتقلين، لكن خلف هذا الاحتفاء المبالغ فيه، تتقاطع مصالح وتتضارب أخرى، تهيمن قوى وتنكسر أخرى. وتحت هدوء الهدنة الهشة، تبقى الأسئلة مفتوحة على أشلاء أبناء غزة ودمارها: غزة إلى أين؟ والمنطقة إلى أين؟
بين ضوء الفجر وظلام القوة
بعيداً عن خطابات الزعماء وصفقات السياسة، وحدها الصور القادمة من غزة، على وجوه الأمهات المنهكات والبيوت المدمّرة وطوابير العائدين إلى مناطقهم التي تحوّلت إلى ركام، تروي قصة فجر ترامب الذي أشرق بعد 731 يوماً على أنقاض العدالة، وظلم القوة، وقهر الحرمان وتجويع ملايين الفلسطينيين الذين ينشدون الحياة قبل السلام.
لكن بلغة السياسة، فإن خطاب ترامب في الكنيست -الذي استبق فيه قمة شرم الشيخ لتوقيع اتفاق وقف إطلاق النار مع قادة مصر وتركيا وقطر- أعلن أن "إسرائيل" حققت كل أهدافها بالقوة العسكرية، وحان موسم الحصاد... "حصاد السلام أم الاستسلام؟"
سلام بالقوة لا بالثقة.. هل يصمد؟
في خطابه أمام الكنيست، قال ترامب: "لقد هزمنا قوى الفوضى من غزة إلى إيران، والعالم بات أكثر أمناً بعد هذا الاتفاق"، مختصراً بهذه العبارة جوهر مقاربته للسلام في الشرق الأوسط، "سلام" مفروض بالقوة على الطرف الأضعف، على أصحاب الحقوق.
احتفاء ترامب بفجر جديد للمنطقة، لم يكن احتفاء بتسوية تقوم على المساواة في الحقوق؛ بل بانتصار محور في مواجهة آخر، هذا النمط من السلام يعيد إنتاج "سلام المنتصرين؛ إذ يُفرض الصمت باسم الاستقرار، ويُعاد تعريف العدالة وفق معادلات القوة. وهكذا يتحول السلام من مشروع مشترك إلى "أداة هيمنة" تزرع بذور الانفجار القادم في تربةٍ لم تلتئم بعد.
اتفاق غزة: بين هدنة سياسية وشرخ استراتيجي
الاتفاق الذي رعته واشنطن بمشاركة مصر وقطر وتركيا أنهى الحرب شكلياً، لكنه فتح بوابة جديدة للانقسام. فبينما تصفه "إسرائيل" بأنه "انتصار للردع"، تعده حماس "مرحلة تكتيكية لبناء التهدئة على أسس جديدة".
وبين الروايتين، تضيع الحقيقة: "لا هدنة مستقرة ولا نصر حاسم؛ بل صفقة هشّة تعيش على الأوكسجين السياسي الأمريكي".
ويمكن القول هنا إن "ما جرى ليس اتفاق سلام؛ بل إعادة ترتيب مؤقت لقواعد الاشتباك، حتى اللحظة التالية من الصراع".
هدنة تواجه تحديات كبرى
على الرغم من الأضواء التي غمرت قاعة شرم الشيخ في الاحتفال بتوقيع اتفاقية السلام في غزة، فإن الطريق إلى السلام لا يزال نفقاً مظلماً مليئاً بالألغام: فمصير سلاح حماس لم يُحسم بعد، والقوة الأمنية المشتركة التي ستشرف على القطاع لم تُحدد معالمها، في حين تبقى السلطة الفلسطينية مهمّشة وخارج المعادلة. الأمر الذي يعزز الانقسام بين غزة والضفة ويكرّس واقع الانفصال بوصفه أمراً دائماً.
من حيث الشكل، قد يبدو اتفاق غزة حدثاً مفصلياً في تاريخ الصراع العربي–الإسرائيلي، لكنه في العمق، يظل "سلاماً مؤقتاً محكوماً بتناقضات القوة والمصالح".
فما دام الحل مفروضاً من الخارج، ومبنياً على تكريس الهيمنة الإسرائيلية من جهة واستغلال معاناة الفلسطينيين من جهة ثانية من دون معالجة الجذور، فإن "الفجر التاريخي" لن يتجاوز كونه "وميضاً سياسياً قصير العمر". أما إذا أرادت واشنطن إنجاح الخطة بالفعل وانجاز السلام الحقيقي فعليها معالجة التحديات الجوهرية الراهنة بواقعية وجديّة وبعيداً عن الاحتفالات السياسية المؤقتة.
من أولى التحديات التي ينبغي معالجتها من أجل نجاح خطة ترامب هو الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة، فالانسحاب يشكل أكبر تحد لنجاحها، فغياب جدول زمني واضح وغياب ضغوط دولية يجعل من "الانسحاب الكامل احتمالاً ضعيفاً". وإذا لم تنسحب "إسرائيل" سوى من المدن الكبرى فسيكون وجودها عنصر تفجير دائم لتجدد الصراع.
ثاني التحديات أمام الخطة هو سلاح حماس التي تصر على الاحتفاظ به، وفي ظل غياب آلية مقبولة ومتفق عليها لنزع السلاح، سيبقى خطر الانفجار قائماً أيضاً.
وأما قوة الاستقرار الدولية المجهولة التي تحدثت عنها الخطة ولم تتضح تفاصيلها وتفويضاتها وصلاحياتها الميدانية، فقد تتحول إلى مجرد «شاهد صامت على الانتهاكات» كما حدث في تجارب لبنان السابقة.
وفي جانب إعادة الإعمار، تبقى الوعود الكبرى التي أطلقها الرئيس ترامب تفتقر إلى آليات تنفيذية واضحة، وستبقى القيود الإسرائيلية على دخول المواد، ومخاوف الفساد والبيروقراطية، عقبات ثقيلة في وجه إعادة الحياة إلى غزة.
من أكثر الأسئلة المفتوحة في خطة ترامب، هو سؤال الإدارة الانتقالية المقترحة للقطاع والتي تبدو غربية أكثر منها فلسطينية، بوجود شخصيات مثل توني بلير من دون مشاركة فاعلة من المجتمع المحلي. إن تجاهل القوى الفلسطينية، وعلى رأسها السلطة والمجتمع المدني، "يفرغ العملية من شرعيتها الوطنية".
وآخر التحديات التي تواجهها الخطة، هي غياب الضمانات الدولية حتى الآن؛ إذ لا توجد ضمانات فعلية تلزم "إسرائيل" أو الأطراف الأخرى تنفيذ التزاماتها، وهذا يجعل الهدنة "هشة وقابلة للانهيار" في أي لحظة.
إن نجاح خطة ترامب للسلام في غزة مشروط بقدرة الأطراف على تجاوز هذه التحديات الجوهرية: انسحاب حقيقي، نزع سلاح منضبط، إدارة وطنية جامعة، ومشروع إعمار لا يُختطف بالسياسة.
من دون ذلك، سيبقى "الفجر التاريخي" الذي بشّر به ترامب "مجرد ومضة في سماءٍ مثقلة بدخان الحرب"، تستغله واشنطن إعلامياً وسياسياً لاستعادة هيمنتها المطلقة على المنطقة ويستغلها ترامب في مشروعه السياسي لجولة رئاسية قادمة. ويستثمرها نتنياهو في التهرب من الملاحقات القضائية داخل "إسرائيل".


