يعيش معظم السوريين دون خط الفقر المدقع (1.9$ يومياً). وشهدت الأسر العاملة تقلص دخلها السنوي بأكثر من 2000% خلال العقد الماضي.
ويعكس وسطي رواتب العاملين بأجر واقعاً أكثر قتامة وبؤساً. حيث انخفض الحد الأدنى للأجور بالقيم الحقيقية إلى أقل من 2370 ل. س مقارنة بالعام 2010 . وهو ما لا يتفق مع ما نصّ عليه الدستور السوري في مادته (40) بأنه “لكل عامل أجر على أن لا يقل عن الحد الأدنى للأجور الذي يضمن متطلبات الحياة المعيشية وتغيرها”.
بالتالي فإن ما يتقاضاه “العاملون بأجر” ليس أجراً معيشياً . الذي يُعرَّف بأنه الأجر القادر على الحفاظ على مستوى معيشي لائق . بما في ذلك الغذاء والسكن والرعاية الصحية والملابس وغيرها من الضروريات الأساسية.
ما يتقاضاه “العامل” يمكن أن نطلق عليه اصطلاحاً “أجور الفقر”؛ الذي هو عبارة عن مبلغ نقدي يضمن بقاء “الموظف” دون عتبة الفقر مع الحفاظ على سوء تقسيم الكعكة الاقتصادية بين الأجور والأرباح لصالح الأخيرة.
ما الذي يمنع من رفع الأجور إلى الحد الذي يسهم في انتشال الناس من براثن الفقر؟.
على الرغم من أن دعاة الخوف في الأعمال والسياسة يواصلون إثارة الحجة الشائعة بأن زيادة الرواتب ستؤدي إلى رفع الأسعار . إلا أن هناك ما يثبت يومياً أن رفع الرواتب والأجور ليس السبب خلف ارتفاع الأسعار. والدليل أن الأسعار ترتفع يومياً دون وجود زيادة في الأجور.
تكمن حقيقة ارتفاع الأسعار. في أن الأثرياء يواصلون استنزاف المليارات من ارتفاع أسعار العقارات والمضاربة على الليرة السورية. ونادراً ما تذهب هذه الأموال إلى الاقتصاد المحلي والاستثمار المنتج، بالتالي فإن ارتفاع الأسعار الناجم عن ارتفاع الأجور ليس إلا تهديداً أكثر من كونه سبباً.
بالمقابل، ينفق العمال ذوو الأجور المنخفضة معظم أموالهم داخل الاقتصاد المحلي . بالتالي من شأن رفع الرواتب أن يضخ مليارات الليرات داخل الاقتصاد الذي يتبعه تحفيز طلب جديد وخلق المزيد من الوظائف اللائقة. وإدخال المجتمعات المهمشة في الاقتصاد.
لذا فإن الحقيقة التي يجب أن يهتم بها صانع القرار. ليس الخشية من ارتفاع العجز في الموازنة العامة للدولة أو خروج بعض الشركات من السوق. بل كيف ننتشل العمال الفقراء من براثن الفقر؟!
أما الحقيقة الأخرى التي يجب أن يهتم بها صانع القرار. وهي أنه من غير المقبول إنسانياً وأخلاقياً أن يهدر العامل 1200 ساعة عمل من حياته شهرياً من أجل الحصول على بعض السلع لا تسد رمق حاجته عدة أيام.
فكما يقول هنري ديفيد ثورو ، “ثمن أي شيء هو مقدار الحياة التي تستبدلها به”، وبهذا الناس لا يشترون الأشياء مقابل المال، بل يشترونها مقابل الساعات التي قضوها من حياتهم من أجل الحصول على ذلك المال.
لذا فإن المطالبة برفع أجور مليوني ونصف عامل في سورية لا يتعلق بقضية العدالة فحسب، الأمر يتعلق بالهدف الأسمى والأكثر نضوجاً وهو التقليل قدر الإمكان من مقدار الحياة التي يتم التضحية بها من أجل تلبية الحد الأدنى من متطلبات المعيشة.
لهذا رفع الرواتب والأجور ضرورة وحق وواجب إنساني وأخلاقي، وإن الحجة الشائعة ضد رفع الأجور من أنها سترفع الأسعار وتجبر بعض الشركات على التوقف عن العمل وأنه سيكون قاتلاً للوظائف مجرد “تهديد غير واقعي”.
إن ما يرفع الأسعار ويقتل الوظائف هو غياب نشاط إنتاجي واحتكار “المهددين والمحذّرين” لمعظم النشاط الاقتصادي مع غياب رقابة فاعلة ومحاسبة صارمة لمضاربي الأسعار ومخالفي القرارات والقوانين.
فكما يحتاج العمال إلى شركات من أجل العمل، أيضاً تحتاج الشركات إلى مواطنين قادرين على شراء منتجاتها.
وإن رفع الرواتب سيكون أحد السبل لخروج اقتصادنا المتعثر من دوامة الجمود، فاقتصاد الأجور المنخفضة لا يترك العمال في حالة فقر فقط، بل إنه يخنق الاقتصاد ككل، ولا يمكن للاقتصاد أن ينهض إذا كان المزيد والمزيد من الناس يعانون من الفقر، ويميل العاملون الذين يتقاضون أجوراً لائقة إلى القيام بعمل أفضل.
تحتاج سورية إلى اقتصاد يعمل للجميع ويضمن الرخاء المشترك على نطاق واسع. وهذا يعني خلق وظائف جيدة تدفع للعمال “أعلى من أجور الفقر” ما يكفي لتحمل الأساسيات لأنفسهم ولأسرهم – ما يكفي لشراء البقالة ودفع الإيجار ووضع الوقود في السيارة وإبقاء أطفالهم في الحضانة.
لن يخفف ارتفاع الرواتب والأجور وحده كل الفقر. ولكنه سيبني بعض القوة لتحقيق مطالب أخرى. إذا ما تم التعامل معها على أنه جزء من استراتيجية واسعة لمكافحة الفقر.
لتصلك أحدث الأخبار يمكنك متابعة قناتنا على التلغرام :https://t.me/hashtagsy