حتى الآن لم أفهم الحالة النفسية لأول شخص ابتدع عبارة: «من شم رائحة الشام بعد المطر مزّق جواز السفر».
هاشتاغ-رأي-صدام حسين
أشعر برغبة عارمة بلقاء هذا الشخص، للتأكد من سلامته العقلية أولاً، ومن ثم قياس فيض الرومانسية الذي يتمتع به، والشعور الذي كان ينتابه عندما كتب هذه العبارة بمنتهى الجديّة.
على أرض الواقع لم أسمع بأي شخص مزق جواز سفره بعد أن شمّ رائحة المطر، في الشام أو أي مكان آخر، على الأقّل لم توثّق وسائل الإعلام حتى الآن حالة من هذا النوع.
لكنني سمعت أن بعض السوريين دفعهم اليأس لتمزيق جوازات سفرهم في حمّامات المطارات ومناطق الترانزيت الدولية لتقديم لجوء في بعض الدول الأوروبية، وهذه حالات موثقة.
عملياً ما الذي يدفع شخصاً ما لارتكاب حماقة تمزيق جواز السفر لمجرد أنه شم رائحة مدينته بعد المطر؟
الخبر الجيد أن هذا الشخص «المغرّر به» غير مصاب بأحد متحورات فايروس كورونا، فهو لا يزال قادراً على الشم، (ولكن لا يمنع من إجراء مسحة «بي سي آر» على سبيل الاحتياط).
أما الخبر السيء هو أن صديقنا مضطر للوقوف في طابور يمتد لأسابيع وربما أشهر للحصول على «بدل جواز ممزق»، ويحتاج لدفع 100 ألف ليرة للحصول على جواز سفر للمغادرة فوراً، عندما يسأم من رائحة الشام بعد المطر ويصل لمرحلة الاختناق.
أرقام قياسية
ربما يندم هذا الشخص على فعلته المستهترة عندما يدرك أنه مزّق جواز السفر الأعلى سعراً في العالم، فهو يكلف 800 دولار بصيغته المستعجلة، و300 دولار بصيغته العادية.
يحتاج جواز السفر السوري إلى 100 يوم للصدور، وهي المدة الأطول عالمياً، وسجل هذا الجواز رقماً قياسياً آخر، فهو الأضعف عالمياً، ويخوّل صاحبه الدخول إلى دول فقيرة معدودة على الأصابع، حتى أنه لا يخول صاحبه الدخول إلى سوريا «مسقط رأسه» بحال لم يملك مئة دولار لتصريفها على الحدود!.
تمزيق «الباسبور» في لحظة انفعال، سيضطر صاحبة إلى حجز دور على «منصة» الهجرة والجوازات، المؤسسة الأغنى في سوريا بعد وزارة الأوقاف، للحصول على جواز صلاحيته سنتين فقط للشباب ضمن سن الخدمة الإلزامية، بينما يتمكن المواطن الإماراتي مثلاً من إصدار جواز سفر هو الأقوى في العالم خلال دقائق معدودة، ويفتح أمامه مطارات الدنيا بأكملها.
لأسباب تقنية
لا تلقي دائرة الهجرة والجوازات بالاً للتقارير الدولية حول نزيف الأدمغة وهجرة الشباب والكفاءات ونزوح الصناعيين والعمال والفلاحين وصغار الكسبة، فقد أصدرت خلال سنوات الحرب ملايين جوازات السفر التي رفدت خزينة الدولة بمليارات الدولارات، وكلما تقاطر آلاف السوريين للوقوف على طوابيرها تزداد الحكومة سعادة وحُبوراً.
لم تتوقف دائرة الهجرة لحظة واحدة عن منح جوازت السفر «للمؤيدين والمعارضين والرماديين»، توقفت فقط لأسباب تقنية، عندما نفد الورق الخاص بطباعة الجوازات من المؤسسة التي لم تعد قادرة على استيعاب طوابير الراغبين بالهجرة من «جنة الله على الأرض».
جواز غرق
ابتلعت البحار والمحيطات قرابة ألف جواز سفر سوري مع أصحابها الذين غامروا بحياتهم عبر قوارب الموت، للنجاة من المقتلة السورية التي سجل عدّادها قرابة المليون إنسان حتى الآن، جربوا كل أشكال الموت، بدءاً بالأسلحة التقليدية، وصولاً إلى أمعاء الكائنات البحرية المفترسة.
أصبح هؤلاء مجرد أرقام تشير إليها تقارير المنظمات الدولية والإنسانية على عُجالة، إلى جانب سبعة ملايين سوري رحلوا عن أرضهم، وباتوا مشردين في بقاع الدنيا، في أسوأ موجة هجرة ونزوح ولجوء منذ الحرب العالمية الثانية، ولم تفكر دولتهم حتى بإنشاء وزارة للمهجرين لمتابعة شؤونهم.
سوق سوداء
يراود حلم السفر معظم السوريين، ذكوراً وإناثاً، شيباً وشباناً، حُلم أصبح صعب المنال مع إغلاق دول العالم مطاراتها بوجه كل من يحمل الجنسية السورية.
لم يعد السفر بالنسبة للإنسان السوري رفاهية، بل رحلة شاقة للبحث عن لقمة العيش وإعالة الأهل في الداخل.
يهرب السوريون من جحيم الحرب، والفقر والانهيار الاقتصادي، والفساد، الذي يعاينه السوري في محطته الأخيرة للحصول على جواز السفر، فباتت هناك سوق سوداء للجوازات بأسعار فلكية، تقودها عصابة من الفاسدين الذي لا يقلّون خطورة عن مهربي البشر، يستغل هؤلاء حاجة الناس للحصول جواز سفر أضحى تهمة في العالم، ولم يصبح ذو قيمة لدى السوريين إلا عندما أرادوا الهروب من وطنهم.
مقولات كاذبة وواقعية
يتداول السوريون فكاهة تقول إن غلاف جواز السفر الأميركي مكتوب عليه «حامل هذا الجواز تحت حماية الولايات المتحدة الأميركية فوق أي أرض وتحت أي سماء»، وجواز السفر البريطاني مكتوب عليه أن «المملكة المتحدة ستدافع عن حامل هذا الجواز حتى آخر جندي على أراضيها»، والجواز الكندي مكتوب عليه «سنحرك أسطولنا من أجلك»، أما جواز السفر السوري مكتوب عليه: «عند فقدان هذا الجواز فإنك ستدفع الغرامة».
ويتداول بعض السوريين خبراً آخر عن «وضع الحكومة الكندية آلة تقدم المشروبات لمواطنيها مجاناً، تمكنهم من الحصول على مشروبات منعشة بمجرد تمرير جواز سفرهم الكندي عبر تلك الآلة».
بالطبع هذه المقولات كاذبة جملة وتفصيلاً، فلا هذه العبارات مكتوبة على جوازات السفر، ولا الآلة الكندية موجودة على أرض الواقع.
ولكن هذه المنشورات الفيسبوكية تشير إلى مدى الإحباط الذي يشعر به الإنسان السورّي حيال دولته، وقلة الثقة بحكومته، ما يجعله عرضة لتصديق أي عبارة غير دقيقة.
قد لا تكون هذه العبارات موجودة بحرفيتها على جوازات سفر تلك الدول، ولكنها مطبقة على أرض الواقع، فتلك دول لديها «الأفعال أبلغ من الأقوال»، ولسنا بحاجة لمقولات جاهزة لنعلم أن للإنسان قيمة ما وراء البحار، فيما حكومات العالم الثالث الزبائنية مجرد جابي ضرائب ومحصّل أموال، والمواطن لديها مجرّد زبون وفرصة للاستثمار.
أرض الأحلام
في الإمارات، وبمجرّد أن تطأ قدما مواطن سوري أرض الأحلام، يلتقط صورة أمام برج خليفة، وهي حالة طبيعية ومبررة قياساً بالفارق الزمني بين الدولتين.
يحتفل السوريون في هذه الأيام بالعيد الوطني للإمارات بحماسة لا نراها في عيدهم الوطني، وهي حالة لا يمكن إدانتها أيضاً.
لا ترى الحكومة السورية ضيراً في هذه الظواهر اللافتة، ولا يخطر ببالها سؤال «الانتماء» لدى مواطنيها، بل تشاركهم الاحتفال بهذا العيد، وتشجعهم على السفر والتقاط المزيد من الصور أمام كل المعالم السياحية والأثرية في العالم، وإرسال العملة الصعبة إلى وطنهم بانتظام.
تثير حوالات المغتربين شهية خزينة الدولة، فالاقتصاد السوري اليوم قائم على القطع الأجنبي الذي تؤمنه حوالات المواطنين المشرّدين في أصقاع الأرض.
الوطن ليس فندقاً
أبحث اليوم أيضاً عن شخص آخر، هو ذلك الذي كتب لأول مرة تلك العبارة الفايسبوكية الشهيرة: «الوطن ليس فندقاً تغادره حين تسوء الخدمة».
عجز غسان كنفاني عن إعطاء تعريف محدد للوطن، واكتفى بعبارته السهلة الممتنعة: «الوطن يا صفية هو ألا يحدث ذلك كله».
وصديقنا صاحب عبارة الفندق، عجز أيضاً عن تعريف الوطن، ولكنه جزم أنه ليس فندقاً، وكلامه صحيح، فهل دخلتم يوماً إلى فندق بلا تدفئة أو كهرباء وحتى مياه؟.
ألم يشعر القائمون على هذا الفندق بالقلق وهم يشاهدون الطوابير التي تسعى لتسجيل الخروج من فندقهم؟، تخيلوا مدى سوء الخدمات التي يقدمها هذا الفندق لزبائنه!.
هناك قاعدة أساسية في عالم الفنادق تقول إن «الزبون دائماً على حق»، والفنادق الجيدة تسعى لتحسين خدماتها بدلاً من إلقاء اللوم على الزبائن.
أتشوّق للتعرّف على أصحاب العبارات والأقوال الجاهزة، لمشاهدة ردات فعلهم بعد أن أصبحت عباراتهم مادة دسمة للسخرية والتنّدر، ربما يضحك هؤلاء اليوم على أنفسهم إذا طالعتهم هكذا منشورات في ذكرياتهم على فايسبوك، ويشعرون بالنقمة على من غرّر بهم لكتابة هذه العبارات الساذجة.